في تمام الساعة الثانية والنصف ظهرا من يوم الجمعة 16/ 10/ 03 اكتظت أفخر قاعات مستشفى فالدي غراس ـ باريس بجموع المودعين، موريتانيين من جميع أجناس وجهات وأطياف الوطن البعيد، وأجانب من مختلف الدول والملل والنحل، جاؤوا ليشيعوا رجلا عظيما رحل بالأمس؛ ألا وهو الرئيس المختار ابن داداه.
كان الجثمان الكريم مسجى بمهابة في تابوت! لم يوجد بعد علم وطني يحتضنه! ولا أثر حتى الآن لممثل عن الدولة التي بناها!
كنت في مقدمة الجمع، فألقيت نظرة أخيرة على العزيز الراحل، ودعوت له.
كان يرقد في سلام سرمدي، بعد ما أنجز أحلامه، وكتب وصية مفصلة، اقتنيت نسختي منها للتو من مكتبة كارتالا!
في تلك اللحظات، تراءى لي تباعا شريط منجزاته العظيمة، ومواقفه الجليلة، التي لا مراء فيها:
* مواجهة الأطماع التوسعية.
* رفض الذوبان في اتحاد مالي، أو الانضمام إلى الاتحاد الصحراوي الذي أنشأته فرنسا بغية سلخ صحراء الجزائر.
* تحقيق حلم الجمع الذي راود حبيب الله بن القاظي والشيخ محمد المامي والشيخ سيدي الكبير والشيخ بابه والأمير بكار والحاج عمر وأحمدُ بن حرمة.. وغيرهم، ألا وهو إقامة كيان موريتاني حر.
* الهجرة من المدينة (سان لويس) إلى خيمة بواد غير ذي زرع في “آمكرز” جعل منها عاصمة الدولة ـ الحلم!
* إرساء دولة قانون عصرية: بإدارتها، وقضائها، وجيشها، وأمنها، وكافة مرافقها العمومية الأخرى، وبُناها التحتية.
* خلق دبلوماسية عظيمة، على قدره العظيم، ساهمت بنجاح في إنشاء وتعزيز الوحدة الإفريقية، وتفعيل الجامعة العربية وحركة عدم الانحياز، واعترفت بفلسطين والصين الشعبية وفيتنام وكامبودج، وحاربت الاستعمار البرتغالي والميز العنصري في إفريقيا، وطاردت وأجْلت إسرائيل منها، وقطعت العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية إبان حرب حزيران، وأخرجتها في ساعات من موريتانيا!
* توفير قسط كبير من الإخاء، والعدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، ودعم المواد الأساسية، والأدوية، وضمان مجانية التعليم، والعلاج!
أخذتني العزة الوطنية بالحق، فكادت تخرجني عن طوري!
تذكرت يوم أخرجت الأناشيد الحماسية والزغاريد الرئيس الوقور المتزن الهادئ عن طوره، وهو يؤمم “ميفرما” فقال: مواطني الأعزاء.. فاغو(1) يطربني ويثير حماسي! (هل ما يزال يوجد ذلك الأثر في مكتبة الإذاعة؟)
ـ إلغاء اتفاقيات التبعية مع فرنسا.
ـ ترسيم اللغة العربية واللغات الوطنية الأخرى.
ـ إنشاء عملة وطنية.
ـ تأميم “ميفرما”.
ـ القضاء على استغلال الإنسان للإنسان.
ـ طريق الأمل.
ـ ميناء نواكشوط.
ـ منظمة استثمار نهر السنغال.
ـ تقسيم القطع الأرضية مجانا على سكان مدن الصفيح.
كلها أعمال صالحة جعلتني أنسى وأتناسى مظالم تمت في عهد الرجل! نسيت، وقد تحقق المرام، وتحرر الوطن، ورجع الحق إلى أصحابه، السجون والتعذيب والنفي والحرمان، وضحايا انتفاضة عمال ازويرات!
قال لي بن سيمون، من إذاعة فرنسا، وهو يحاورني في الموضوع: “ولكنه كان أبا قاسيا! لقد سجنكم وعذبكم ونفاكم ..الخ”!
قلت له: وما من أب إلا ويقسو حينا على أبنائه؟ ولكن أبا الأمة الموريتانية كان أقسى على الاستعمار والصهيونية، وينهج سبيل الحوار والتشاور، ورجع مرارا إلى الحق فتبنى رأي إخوته وأبنائه في تدبير أغلب شؤون الأسرة الموريتانية!
حدثان لم أستوعبهما أو أستطع نسيانهما حتى في هذه اللحظة المهيبة:
* حرب الصحراء المشؤومة التي عصفت بما بنيناه، وجعلتنا تحت رحمة العسكر. هل كان من الممكن تجنبها؟ أما كان بالإمكان أبدع مما كان؟
* التغاضي عن الانقلاب، وقد علم به الرئيس قبل وقوعه! في رأيه أنه بتغاضيه جنبنا فتنة محققة؛ لكن هل هناك فتنة أعظم من الاستقالة من المسؤولية، وترك البلاد والعباد لقمة سائغة في يد غير أمينة؟ في اعتقادي أنه كان باستطاعة الرئيس – ويجب عليه- أن يفعل غير ما فعل!
خطوت خطوات إلى حيث تقف سيدة موريتانيا الأولى ونجل الفقيد الأكبر فقدمت لهما تعازي القلبية.
بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو