بقلب يعتصره الألم ، وعين تفيض من الدمع ، ونفس مكلومة مفجوعة ، تلقيت خبرا هز كياني ، وأطار فؤادي ، وأهمني وأغمني ، لولا أن الله سبحانه من علي فراجعت أول ما صدمت.
إنه خبر وفاة الأستاذ العالم المعلم ، والداعية المربي الحكيم ، والمجاهد الشجاع ، والشاعر الكاتب ، والأديب الأريب ، والباذل الجواد السخي : سيدي محمد ولد أحمد سيدي رحمه الله، وذلك يوم الأحد 06 / جمادى الآخرة 1435ه الموافق 06/أبريل2014 ، بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد جهاد مبارك ، وعطاء دعوي واسع ، وبذل وتضحية متواصلين.
لقد كان سيدي محمد عديم أوانه ، وفريد أقرانه ،علما وحلما واستقامة ، وعقلا وفتوة وشهامة ،
متصفا بمزايا وخصال لم تجتمع لكثير من أمثاله : فالإيمان الصادق والخوف من الله جل في علاه ، والعلم النافع ، والصدق والإخلاص ، والحزم والعزم ، والعقل الحصيف ،والحس الظريف ، والرأي المسدد ، والأدب الجم ، والطاقات المتجددة ، والمواهب المتعددة ، من أهم تلك الخلال.
فلك الله يا مدينة كرو وشبابه ونساءه.
كنت قد تفرست فيه خيرا ، منذ قرابة عشرين عاما ، فقلت لبعض الإخوة الأفاضل – ثبتنا الله وإياهم – ” إن عندنا شابين منح الله كلا منهما عقلا وخلقا وبصيرة أرجو أن تدركهما عناية الله فيوظفا ذلك في الدعوة إلى الله وخدمة دينه ” وهذا الذي وقع فضلا من الله ونعمة ، وفقيدنا رحمه الله أحد هاذين الشابين والآخر هو سيد محمد ولد النعمه ولد أحميتي ، أطال الله أعمارنا وإياه في طاعته وختم لنا وله بالحسنى.
لقد مثل أواخر عقد التسعينات منعطفا تاريخيا هاما في حياة أستاذنا الفقيد ، حيث وفقه الله سبحانه فأدرك ببصيرته النافذة ، وذكائه المتقد ، و نظره البعيد ، فشل الحلول المستوردة كلها ، ومدى الخسارة التي جنتها على أمتنا العربية والإسلامية ، فأعلن القطيعة التامة مع الفكر القومي عموما ، والتيار الناصري – خصوصا – الذي كان أحد أهم رموزه ومكوني شبابه ، وتاب إلى الله من كل ذلك ، متحولا بكل كيانه إلى الدعوة الإسلامية دون تردد .
وما كان لهذا الحدث المدوي أن يمر دون أن تكون له تداعياته الكبيرة ، بل وقع كالصاعقة على رفاقه وزملائه في ذلك التيار وغيره ، خارج وداخل مدينة كرو، وبدأت الضغوط ومحاولات الصد والرد تمارس عليه من القرباء وغيرهم ، ولكن الرجل لم يكن من المترددين في أخذ القرارات الحاسمة والمصيرية ، فكان ثابتا كالجبل الأشم ، فلم يعرهم أي اهتمام ، ولم يبال بمحاولاتهم اليائسة ، بل كان حاله يقول : ” والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته …” ، ِوتيئيسا لهم منه قطع الشك باليقين ، فسجل بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية ، وانخرط في العمل الدعوي بلسانه المسلول ، وقلبه العقول ، وبيانه الساحر الأخاذ ، وشاعريته المتألقة ، ولغته الناصعة ، ونفسه وماله وكل ما آتاه الله من مواهب وملكات ، وحرص على أن تنطلق تلك الدعوة من بيته الذي كان يخدم منه فكرا وتيارا آخر ، وكأنه كان يستشعر حرجا يريد أن يكفر عنه ، ودرنا يريد أن يغسله ، فكان بيته دار أرقم وغار حراء جديدين ، باذلا كل ما يملك في سبيل الله . وهذا ما لمسته منه وصرح لي به حين قال : ” لن أترك مكانا دخلته ، قبل الدعوة إلى الله ولا دربا سلكته إلا ضاعفت ذلك بعد أن أكرمني الله بهذه الدعوة حتى ألقاه ” وكان صادقا في ذلك ، وما عرف الناس فيه إلا الصدق.
انطلق في عمله الدعوي القائم على نشر العلم بين كافة أفراد وشرائح المجتمع ، مسالما غير معاد ، ومنسجما مع المجتمع غير مصادم ، ووسطيا معتدلا غير غال ولا جاف ، فجالس الشيوخ – في أدب وتواضع – آخذا عنهم ومستشيرا ، والزملاء – في احترام وسعة صدر- محاورا ومجادلا بالتي هي أحسن ، والشباب – في رفق ولين – معلما وموجها ومُرَشِدا ، حتى أثمر ذلك ما تعرفه الخاصة والعامة في ولاية لعصابه من انتشار للالتزام والاحتشام ومن تجذر للدعوة إلى الله في كل بيوت المنطقة وكل حواضرها.
وكان العمل التعليمي والدعوي الذي أشرف عليه ورعاه الأستاذ الفقيد رحمه الله منصبا – في كثير من جوانبه – على المرأة ، لأنه يدرك أنها حجر الزاوية ومركز الدائرة وبيت القصيد ، في كل عملية إصلاح لأي مجتمع ، الأمر الذي سبب معارضة من بعض الشيوخ والفقهاء ، الحريصين على قيم المجتمع وثوابته ، لأنهم لم يفهموا الأمر على حقيقته ، فكانت حكمة الأستاذ وحسن علاقته مع هؤلاء الفضلاء سببا في تطييب الخواطر وإزالة اللبس عن كثير منهم فأصبح عامل بناء لا معول هدم ، ومناصرا لا خاذلا.
ولقد ذكرني اهتمامه بالمرأة وسعيه في جعلها مؤثرة في العمل الدعوي وقائدة فيه ، بما بدأه في تلك المدينة أستاذنا العلامة الناجي ولد محمود رحمه الله ، وبما لاقى في ذلك من العنت والمشقة.
أراد الله لأخينا سيدي محمد رحمه الله أن يكون حلقة في سلسلة متصلة ، ولبنة قوية في بناء دعوي تراكمي ممتد منذ دوت في أرجاء الأرض أول صيحة من صيحات الدعاة الموحدين من أنبياء الله ورسله وأتباعهم وإلى اليوم.
وهب الله سبحانه فقيدنا نفسا كبيرة ، وهمة عالية ، تواقة للمعالي ، متسامية على نزعات الجسد ورغبات النفوس الصغيرة ، متألقة عالية ، والناس صنفان : منهم من يحلق فيسمو نحو العرش ، ومنهم من يحوم حول الحش.
ما لقيته إلا وهو بتلك الهمة المتوثبة العالية ، والروح اللاهبة ، والنشاط المحموم ، وكأنه يسابق أجلا يريد له أن ينتهي في خدمة الدين وعمارة الدنيا به ، وكم كان يهتز ويهش ويبش لأبيات الشهيد الفلسطيني عبد الرحيم محمود رحمه الله :
سأحمل روحي على راحتي * * * وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق * * * وإما ممات يغيظ العدا
ونفس الكريم لها غايتان * * * ورود المنايا ونيل المنى
وكم كنت أشفق عليه من تعدد الأنشطة والمهام ، وإهماله لمتطلبات الجسد من الطعام والراحة ، فيقول لي : “لقد أخذ الجسد متطلباته بل أكثر، وبقيت متطلبات الروح”
عندها تذكرت قولة الشهيد سيد قطب رحمه الله : ” كل فكرة عاشت اقتاتت قلب إنسان حي” وصدق بيت الشاعر:
وإذا كانت النفوس كبارا * * * تعبت في مرادها الأجسام
وقول الآخر:
يقول لي الطبيب أكلت شيئا * * * وداؤك في شرابك والطعام
فإن أمرض فما مرض اصطباري * * * وإن أحمم فما حم اعتزامي
وإن أسلم فما أبقى ولكن * * * سلمت من الحمام إلى الحمام
سألته قبل أسبوعين من سفره إلى الحجاز، عن برنامجه في المكث هنا أو السفر، وكان قادما من رحلة علاج في تونس ، فقال : سأذهب إلى المدينة المنورة غير ناو العودة منها ، وكأنه كان ينظر خاتمته رحمه الله وتقبله في الصالحين.
ويبقى الفقيد سيرة ملهمة ، ومدرسة للسائرين معلمة ، ودربا مستقيما يقف فيه منتصب القامة ، ثابت الخطو مرفوع الهامة ، رافعا علم العزة والكرامة ، مخاطبا في صدق وإخلاصٍ :
– رفقاءه قبل الدعوة : لقد جربتم أفكارا وحلولا أخرى فعليكم أن تنتبهوا وتحوزوا الشرف فتأخذوا مواقعكم في الدعوة قبل فوات الأوان واسألوا من يحبكم ويتمنى لكم الخير.
– ورفقاءه في الدعوة : إن مجرد انتسابكم للعمل الدعوي لا يعفيكم من المسؤولية أمام الله جل وعلا ، بل يزيدها عليكم ، ويجعلها أكبر، فلكي تخرجوا أنفسكم وغيركم من الهوة ، عليكم أن تشمروا وتأخذوا المنهج الرباني بقوة.
– أهل مدينة كرو خاصة طلابه وتلامذته : يا ليتكم تدركون نعمة ما أنتم فيه من العمل لدين الواحد الأحد ، فتحمدون الله عليها ، وتتحملون مشاق وتبعات الطريق الذي تضعون أقدامكم عليه.[ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ]
– السلطات والمسؤولين : إن الله سائلكم عما استرعاكم ، كما في الصحيح : ” كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ” فأعدوا للسؤال جوابا وللجواب صوابا ، وخلوا بين الناس وبين ما ارتضاه الله لهم ، وكونوا عونا لهم على الخير ، [وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ]
هذا هو الفارس الذي التحق بالركب متأخرا وشاء الله جل وعلا يختصر له الزمن ويطوي له المسافات ، فيحقق الكثير في زمن قليل ويجهد السائرين خلفه ، فيا له من فارس أتعب من بعده.
فسلام عليه في التائبين ، وسلام عليه في العالمين العاملين المخلصين ، وسلام عليه إلى يوم الدين، ونسأله سبحانه أن يتقبل كل ما قدم لهذا الدين، وأن يحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالح
ين.
ونسأل الله أن يبارك في ولديه (مسرة وأحمد ) وفي أمهما ، وعوض أهله وأمته والإسلام خيرا منه ، ورزقنا الصبر والسلوان.
بقلم
المصطفى ولد محمد الزين ولد لمخيطير