أبى:
إليك .. وإلى كل من يستطيع قراءة سطور مضمخة بالدمع والدم والرماد ..
لم تجد وقتا لتودعني، وأنا أيضا كنت أسيرة لحظة لا مجال فيها للتريث قبل الرحيل..
أحسك معي أنفاسا ودفئا وحضنا، تماما كما ترافقني أمي البعيدة والحبيبة حنينا ولوعة و شجى لا ينقضي…
أتخيلك يا أبى، وأنت تحدق في فراغ الرماد الموحش ملأ جدران مهجورة مغبرة قبيحة بائسة متمتما بصمت: ( أترى أخطأت يوما إذ نقلتك من ضفاف الأعظمية)..!!
أراك وأنا مسافرة هناك بعيدا ،مهموما مكسور الوجدان، تملأك غصة شعور بالذنب، لأنك نقلتني ـ كما الزهرة المتفتحة ـ من منبت النشأة، في بلد افريقي بعيد إلى مشتل المغرس هنا في وطنك و وطني أيضا، إذ لا وطن لي إلا الذي ارتضيته لي حبا وكرامة..
أبى لم تكن مذنبا، كنت تريد أن تنبتني نباتا حسنا و تسقينى بماء المكرمات و تغسلني بالقيم والحق والخلق الرفيع..
أبى:
اذهب إلى رمادي في ذلك الحائط المهجور حائط الفجيعة (فعظامى تشتهى أن تدسوها “قدماكا”) وفتش عن ابنتك زينب ،عن طهرها، عن عذريتها، عن براءتها، عن طفولتها ،عن ضفائرها ،ودفاترها ،وألواحها ،و محفوظاتها.
فتش أيضا يا أبى وسط الرماد عن مجتمع ضاع،وقيم بادت، ودين يبكى مأساته، وحضارة تشرب نحبها، بعد أن شربت نخبها ذات زمن جميل.
أبى لا تثريب عليك، فقد ربيتني، و علمتنى، واخترت لي أحسن الأسماء، و أرسلتنى صباحا إلى المدرسة لأتعلم شيئا من روح عصر قذفت فيه بنفس السرعة التي قدفت بها خارجه، ومساء إلى المحظرة لأقرأ كتاب الله ،وأتعطر بسيرة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهل من المعين الصافي الرقراق لدين كله حب وألفة وتسامح وتعايش ورحمة ومودة، كان ذلك حقي عليك وأشهد أنك أديته كاملا، أما حقك علي ففتش عنه أيضا في كومة الرماد مع كل أشيائي التي تقاسمها قطاع الطرق حرقا في ذروة سكرهم وجنونهم وتوحشهم.
ولك سؤال يا أبى الحنون: ألم يكن الموت أرحم بى من أن أعيش جسدا غريبا بينكم حاملة عار اغتصاب لا ذنب لي فيه، والعيون ترمقني بازدراء لا تخفيه وجوه تتصنع المودة والألفة، ولا تمتمات يضمر أهلها من اللعنات عكس ما يظهرون من صافى الوداد، وأياد تصافح قبل أن تدس أصابعها في الرمل، وتشيح بوجوه مستنكرة تفيض ازدراء وسخرية..؟!!
أبى:
إن بكيتني ـ وستفعلها يقينا بحرقة وأسى ـ فلا تنس البكاء على المغرس الذي نقلتني إليه لإنقاذي من الضياع هناك في بلاد الأخوال.
لم يعد المغرس آمنا، ذبلت كل أزهاره، ونضب ماؤه، وتهاوت أسواره، وتساقطت أوراقه، وهجره المتعهدون الذين يحسنون غرس النبات وسقيه بأطيب الماء وتشذيبه وحمايته من الطيور وعوادي الزمن، وخلف من بعدهم خلف أضاعوا المغرس، وحولوه ملاعب رقص وظلم وعربدة وسفاح ورعب.
هو اليوم يا أبى غابة للوحوش فيها صولات وجولات، لا خضرة فيه ، لا ماء، لا مرعى، إن هي إلا رمال جرداء، وأوراق ذابلة، ورياح تصفر في ليل موحش بهيم، تتقاسمه أصوات الوحوش المفترسة، وطنين الحشرات السامة.
أبى:
لا تبتئس، قد يعود المغرس جميلا خضلا ذات إشراقة قادمة، رقراق الجداول، وتعود طيوره إلى قمم الدوح جذلانة غردة مفعمة بالشمس والحياة..
اللوم ليس عليك يا أبى، اللوم على ظروف تغيرت بعدك كثيرا، اللوم على الذين حولوا ميراث آبائك الطيبين إلى مجرد قطع أثرية مهملة، على الذين ناموا وتركوا السكاكين تنهش اللحوم الطرية في وضح النهار، على الذين نهبوا كل شيء، وشوهوا كل شيء، وملأوا الحياة حرسا شديدا وشهبا..
اللوم على الذين اغتالوا المجتمع، وعلقوه على قارعة الطريق جسدا ينزف، وقطعوا أوصاله، وسرقوا قيمه ،وأخلاقه وطهارته وعفافه، وأخرجوه مسخا جديدا (لا هو هو ولا الأيام أيامه)
اللوم على الذين تركوا بيوتنا للصوص، ومدارسنا للقتلة ،وعيوننا وطهرنا وبراءتنا للدهماء والرعاع.
اللوم على الذين أعادوا جيوش الهمج، وفتحوا أبواب الأرض والسماء للعلوج والمغول و عبدة المال وسكارى الجنس والنزوة والتوحش.
اللوم على الذين مسحوا الطاولة، وتركوها لمن يكتب أحرف السادية، ويكسر المزهريات الجميلة الغضة الطرية، ويغتالها ورقا ناضرا ،ولونا بهيجا وبسمة مشرقة.
اللوم على الذين سرقوا منا كل الصباحات الجميلة، وزرعوا مساءاتنا رعبا وصراخا وقتلا وعنجهية.
اللوم على الذين أبدلونا أمنا بخوف، وطعاما بجوع، وماء بعطش، وعلى الذين غرزوا فينا سكاكينهم لتغوص حتى فى شغاف القلب بل أكثر من ذلك لتجرحنا حتى في الكرامة والطهر والآدمية، وعلى الذين لم يستوقفهم رمادنا ونحن نحترق أكبادا رطبة، وشبابا ناضرا، وطفولة غضة، وقيما وتاريخا وتراثا ،وشيئا من ماض مجيد.
أبى لا تثريب عليك، لم يكن بيدك شيء، أنت ـ ككل المستضعفين هنا في أرض أعمامي ـ لا تملك سوى الدموع والشحوب، والقهر والموت كرامة تنتهك، وإنسانية لا أحد يرحمها.
وأعرف أنك “تفتا” تذكرنى “حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين”، ولكن امسح دموعك يا أبى، وتماسك كما الرجال المسلمون الأوفياء الصابرون القابضون على جمر الحياة.
أبى قل لهم إن جاءوك ظهرا يبكون : (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)
تقبل رحيلي الفاجع الأليم بصدر رحب، وصدقهم فقد جاءوك بدم صادق، ورماد أكثر صدقا نعم هذا دمى، وذلك رمادي، وقد قتلونى اغتصابا وحرقا، ولم أشبه لهم ..!!
وهنا في المنزل شيء من ذكراي، بصماتي، ضحكاتي، تاريخي كله يتراقص مع طيفي الباسم وصوري العصية على الغياب
دفتري وقلم الرصاص، مسطرتي و محفظتى، ثيابي وملقط ضفائري، والهدايا التي كنت تمنحني
هنا لوحي وهذه دواتي وذلك مصحفي، وهناك رقمي على لائحة نداء لن يسمع مناديها إلا “غائبة” ،وأي غياب موحش طويل بالوجع ذلك الذي أبعدني عنك أبى، عن أمي البعيدة، عن لوحي، و مدرستي، عن حلمي ومستقبلي، عن طفولتي التي اغتصبوها، وعمري الذي اقتصروه، وجسدي الذي حرقوه، وإناء الزهر الذي كسروه
هنا صورة أمي الحبيبة الغريبة البعيدة..
أبى بلغها سلامي إن كانت على قيد الحياة في بلدي هناك، حيث الأفق المشمس المطير وإن كانت رحلت فقل لها زينب تنظرك في الجنة.
أبى لابد أن أودعك بأبيات حفظتها في “القلاع” التي اخترتها لي مدرسة من دون المدارس:
( وبلغ أبى منى السلام وقل له
يحييك من قد كنت قدما تصونه
فلما دنا ما كنت منه مؤملا
نآك كما ينأى الغريم خؤونه
وعرج بأمي واترك القول عندها
ألا إن بعض القول جلت شؤونه )
وداعا يا أبى
طفلتك التي تحبك حتى الرماد/
زينب منت عبدا لله الخضير