كنت ممن لا تعجبهم سياسة الرئيس المختار ولد داداه. وكان من أشد مآخذي عليه قبل الحرب، الدعاية الحزبية في إعلامه الصغير؛ المليئة بالتملق والتزلف، وكذلك طغيان الرطانة الفرنسة، وإلقاء خطاباته الرسمية بالفرنسية، وما يعانيه الناس من صرامةِ وجبروت الإدارة الحكومية عموما في كل القطاعات… وأما الحرب فكانت خطأ بينا وكارثة لم يحسب لها، رغم المبررات الموضوعية والتاريخية والاستراتيجية لـ”توحيد الوطن”… ولكن في النهاية لا خير في الحرب!
كانت هذه المآخذ، مع ما ينشره ويبثه الإخوة والأصدقاء “الكادحون”، وحماسة وتمرد الشباب، تُعمِينا عن إكراهات النظام، حتى قبل الحرب، وما تحتمه من مسايرة الفرنسيين وهم من قدم الاستقلال على طبقهم، ودعموه ماليا، ويحمونه سياسيا وأمنيا في وجه عداء أو جفاء الأشقاء العرب خاصة، وحالة العوز في كل متطلبات الدولة…
كانت مجانية الصحة والتعليم، مع جودة الموجود منهما، ومراقبة الدولة الفعالة للأسعار وتدخلها المباشر لتموين الأسواق (سونمكس) وتوزيع “المساعدة”(مفوضية الأمن الغذائي) بكفاءة وسرعة وشمولية… كأنها لم تكن شيئا، أو هي واجب “بلا اجمِيل”!
**
ظل الرجل ـ إلى اليوم ـ رغم ما تعرض له من الإهانة والغمط والظلم (السجن الطويل دون محاكمة)، عقدة نقص للأنظمة العسكرية؛ تتجاهله وتشجع استهدافه الصريح أو بالغمز واللمز! ثم لا يجد الواجدون عليه الا اتهامه بالرجعية والعمالة لقوى الاستعمار!
فهل لذلك أي وجه من وجوه الحق؟
ولأن النزاهة ونظافة الذمة والكفاءة المهنية، لم نجد من بين أعداء وخصوم الرجل من يشكك فيها، لم يبق إلا مناقشة سلامة ممارساته السياسية وتوجهاته الفكرية.
سنفترض أن الأرض الموريتانية وشعبها كانا هدفا وموقعا استراتيجيا لفرنسا تموت دونه، كما كانت الجزائر أو السنيغال مثلا، وهو مجرد افتراض لا صحة له طبعا…
فهل كان المختار ـ رحمه الله ـ ألعوبة بيد فرنسا، أم مهادنا مكايدا لها مستغلا لصداقتها؟ وهل كان رجعيا أم تقدميا؟ وهل كان مواليا لقوى الاستعمار والامبريالية (باصطلاح عصره) أم ثوريا مناصرا لقضايا حرية الشعوب وانعتاقها؟؟؟
من السهل استخلاص الأجوبة الصحيحة من مواقف الرجل ومسيرة نظامه، عبر الأمثلة والوقائع التالية:
1- لم يكن الإدخال المتصاعد للتعريب في التعليم والإعلام، ومراجعة الاتفاقيات مع فرنسا وتأميم شركة الحديد (ميفرما) والخروج من منطقة الفرنك الإفريقي (الفرنسي)… من الأمور التي تعجب فرنسا، ولكنها لم تجد الوسيلة المعنوية ولا الحجة المنطقية للحيلولة دون ما علمت به منها، أو رفضه بعد وقوعه؛ فاكتفت بالاحتجاج والاستياء وربما العتاب والعقاب بنقص الدعم المالي (كما كان متوقعا كل مرة).
2- كان ولد داداه، مع احترامه الشديد للتقاليد والسمت المحلي، ذا توجه تقدمي بمواجهته الهادئة والصارمة للقبلية. فكان يكرم أمراء ووجهاء وشيوخ القبائل إكراما شخصيا ويجردهم تماما من كل سلطة ونفوذ عام؛ بل ويتحاشى الاستعانة بهم ولو في حل مشاكلهم! وهذا مهم لإشعارهم بأن سلطة الدولة قد حلت محلهم ولم تعد تحتاج إليهم ـ كما كانت الإدارة الفرنسية ـ وليس لهم من الأمر شيء غير الاحترام والإكرام… والخضوع!
كما تَمثل توجهُه التقدمي أيضا في بُعدٍ شخصي خاص خارج على العرف والتقاليد حيث تزوج فرنسية كاثوليكية زواجا ناجحا بكل المقاييس العائلية المحلية في مجتمعه وبلده (اقتطعها لهذه الصحراء الجرداء، بدلا من أن تكون وثاقه إلى تلك الجنان الأوروبية!).
3- وعلى الصعيد العالمي والميول السياسية والفكرية كانت توجهات المختار ظاهرة التمايز، إن لم نقل التناقض، مع السياسات والتوجهات الغربية الاستعمارية والفرنسية بصورة خاصة، مع حرصه على علاقات معها طيبة ومفيدة، بل ضرورية، لدولته الوليدة المعدمة.
ويمكن ملاحظة ذلك من نهجه الاشتراكي في الداخل (اقتصاد موجه وحزب وحيد) ومن صداقاته وعلاقاته “الأيديولوجية” بزعماء الثورات والدول المناهضة للاستعمار، وكذلك اهتمامه ونضاله الديبلوماسي والاعلامي من أجل القضية الفلسطينية، وقضايا تصفية الاستعمار والميز العنصري في وسط وجنوب القارة الإفريقية…
ومن تلك الثورات التي لا تعجب فرنسا قطعا: الثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية، ومثلها تلك التي تغيظ حلفاءها الأقربين في المجموعة الأوروبية، وهي الكفاح السياسي والعسكري ضد الاستعمار في الصحراء الغربية والفصلِ العنصري في جنوب إفريقيا وروديسيا (زيمبابوي حاليا) وناميبيا وأنغولا وغينيا بيساو والرأس الأخضر…
وكانت من صداقات ولد داداه الحيوية المتجسدة في التعاون والنشاط العلني، على سبيل المثال: علاقاته القوية بالرئيس المصري جمال عبد الناصر، والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، والرئيس اليوغسلافي جوزيف تيتو، والكوري الشمالي كيم إيل سونغ، والفيتنامي هوشي منه، والزعيم الصيني ماوتسي تونغ، ضد تشانغكاي شيك حليف أمريكا، والكمبودجي سيهانوك ضد لونول، عميل أمريكا… الخ.
وقد سخَّر ولد داداه ديبلوماسيته الفعالة وفتَح إعلامَه المتواضع للثورة الفلسطينية ولثورات النضال الإفريقي ضد الاستعمار والعنصرية. وحين اغتال “الموساد” قائدي الكفاح الفلسطيني: كمال عدوان وأبو يوسف النجار (ابريل 1973)، واغتالت مخابرات الاستعمار البرتغالي/ الأوروبي قُبيل ذلك (يناير 1973) المناضل الإفريقي/ الكابفيردي أميلكار كابرال، أنشأت موريتانيا مركزا سياسيا وإعلاميا باسم “أبو يوسف كابرال” في نواكشوط.
4- وجه ولد داداه الدعوة لعبد الناصر لزيارة موريتانيا، لكن المنية عاجلته قبل تلبية الدعوة، فأطلق اسمه على الشارع الرئيسي في العاصمة (شارع الكثيب سابقا).
ولكن كان نشاط المركز الثقافي العربي، الذي وجه عبد الناصر بافتتاحه في نواكشوط، هو اللكمة المؤلمة لفرنسا وأذنابها. فكان نشاطه وتأثيره “الخطير” على تحديث الثقافة العربية ونشر الوعي العروبي يقضُّ مضجع السفير الفرنسي وطواقمه الممسكة بتلابيب الدولة الموريتانية العميقة.
ولكن ذلك المركز استمر وتوسع نشاطه التعليمي مُشجَّعا من السلطات الموريتانية تشجيعا انتهى بفتح المجال للمتخرجين منه (الأحرار) لدخول امتحانات الشهادة الإعدادية العربية، التي كانت الدولة تُوفِد الناجحين فيها بمنح دراسية في مختلف الدول العربية!
5- بالتزامن مع ذلك أنشأ العلامة محمود با “مدارس الفلاح” العربية الحرة، وأنشأ العلامة عبد الرحمن الشيخ مدارس “ابن عامر” الحرة. وأغضبت هاتان المؤسستان اللتان تُدرسان مع العلوم الشرعية علوما عربية عصرية، الفرنسيين أيضا؛ خاصة أن الدولة الموريتانية كانت تحظر رسميا التعليم الخاص!
وقد تعرض الأستاذ محمد الأمين الشيخ، الذي كان معلما حكوميا، لمضايقات عديدة من الفرانكفونيين المسيطرين على إدارة التعليم، استهدفت مشروعه وإبعادَه بالتحويل عن نواكشوط… فطلب لقاء الرئيس المختار وعرض عليه الأمر، فكان رد الرئيس حاسما: استمر في مشروعك وأنت من الآن “مُفَـرَّغ” رسميا له!
وهكذا استمرت مدارس ابن عامر وانتشرت في أنحاء البلاد. (وهذه مناسبة للتذكير بدور هذا الرجل الرائد في التعليم والإعلام والإرشاد المتنور ـ المرحوم محمد الأمين الشيخ ـ عسى أن يجد من الذكر والتكريم ما يستحق من هذه الدولة وهذا المجتمع اللذين خدمهما في تلك الظروف الصعبة).
ولا ننسى أن الرئيس ولد داداه، مع هذا الانخراط في المعسكر اليساري الثوري والجهد العروبي المحفوف بالمكاره، لم يفرط في المعسكر الآخر “الاستعماري” وظل حريصا على عدم إثارته واستعدائه (كما فعل الرئيس الغيني أحمد شيخو توري مثلا)؛ فكانت تربطه علاقات صداقة وتعاون قوية بأقطاب إفريقيا الفرنسية أو فرنسا الإفريقية على الأصح؛ مثل الرئيس السينغالي سيدار سينغور والعاجي هوفوت بوانيي والغابوني عمر بونغو…
ولم تكن هذه العلاقة تنطلق من المحبة أو التآلف الشخصي وإنما كان يمليها الحفاظ على مصالح آلاف الموريتانيين العاملين في هذه الدول عملا في غاية الحيوية لهم ولأهلهم في الوطن الفقير القفار… ناهيك عن كونها عامل توازن “يبل ريش” الفرنسيين!
**
باختصار شديد لم يكن المختار ولد داداه من ذلك النوع من الخفيف من القادة، ولا المتظاهر بالقوة والحدة، المستضخِم بالشعبوية، ولا المتباهي بفضائله وإنجازاته… والأهم أنه لم يبد يوما أي شعور بالنقص أو “لَعْظام” من فرنسا والاعتماد على دعمها؛ بل عبر عن موقفه الحقيقي، فكان يصف في بعض خطاباته الرسمية العلاقة معها بالمثل الشعبي: “يَلاَّلِي مَكْرَهْنِي بِيكْ امْرَابِطْ ومَاغْلَى اعْليَ لَبْن انْعَاجَكْ”!!
وبذلك قاد المختار عملية التأسيس في الداخل والخارج بحكمة وذكاء وحزم ونزاهة وواقعية. وكان من الطبيعي أن يواجه أعداء ومعارضين. لكن بتلك الخصال وبالعزيمة والصبر لم يترك لهم مجالا واسعا في شأو المعركة.
ومن يتذكر الطريقة التي أزيح بها من السلطة 1978، وتعامله مع الانقلابيين وإساءتهم وإهانتهم… ومقابلته ذلك بالصمت والزهد فيما عندهم (وقد راودوه عن صفقة تعاون!)، وما لقي من عَنَت ومرض قبل أن يسمحوا له بالسفر للعلاج في فرنسا، التي تجاهلته وجَفَته؛ بل وشمتت به، وكيف لجأ إلى صديق خاص من العامة ليدفع عنه تكاليف الفحوص والعلاج هناك… يدرك أنه كان رجلا استثنائيا، “كبيرا” حقا.
عاش المختار ولد داداه ومات ـ رحمه الله ـ على حلم واحد هو أن تقوم لمجتمعات هذه الصحراء الصنهاجية “التاريخية” المترامية، دولة جامعة مانعة نافعة ومحترمة…
في الأخير لا ألوم كثيرا من الذين يحكمون على الرجل من خلال مكانته عند الأنظمة الانقلابية التي تعاقبت على وأد جوهر مشروع حلمه! وهي مكانة تعتمد الكفران والتشويه أو التجاهل والحذف في أحسن الأحوال وأقومها…
فإن الأربعين سنة هي الأشُد واكتمال العلم والعقل والجسم…!