على مشارف مدينة جوهانسبورغ في جنوب أفريقيا، وبعيداً من مناطقها السياحية وفنادقها الفاخرة وتماثيل الزعيم نيلسون مانديلا التي تدغدغ مشاعر السياح، ونهضة غير متوقعة في عمق القارة السمراء حيث الألماس والذهب وعقود من العنصرية، عيادة «ويتكوبن» الشهيرة بين سكان الأحياء الواقعة شمال المدينة.
ليست عيادة بالمعنى المعروف، لكنها مركز لرفاهة الفقراء، أو بالأحرى الفقيرات، ومكان لدعم الأمهات، ومركز لحماية المواليد الجدد، ومقر لدعم المجتمع المحروم المحيط بها، حيث عشوائيات الفقر عقيدتها، والحرمان عرفها، والعوز دستورها.
المديرة التنفيذية للعيادة الدكتور جين باسات أوضحت لـ «الحياة» أن العيادة ملجأ لنساء، وأطفال، وأحياناً لرجال المنطقة المحيطة حيث نحو ربع مليون مواطن، إضافة إلى مهاجرين ونازحين من بلدان مجاورة. وهي ليست منطقة فقيرة فحسب، لكنها تكاد تكون معدومة، حيث تتجاوز نسبة البطالة الـ50 في المئة، ويعيش 70 في المئة من السكان تحت خط الفقر، ما يعني أن صحة المرأة والطفل كثيراً ما تكون رفاهية لا قبل لهم بها.
الرفاهية حق بديهي
لكن العيادة، التي أسسها طبيبان عام 1946 رغبة منهما بخدمة المنطقة المحرومة، تتعامل مع الرفاهية باعتبارها ضرورة من ضرورات الحياة، وحقاً بديهياً من حقوق الحياة.
المشهد عند البوابة الرئيسة في الخامسة صباحاً يستحق التأمل. عشرات الأمهات حاملات أطفالهن المولودين حديثاً والمحمولين كحقائب بالطريقة الأفريقية التقليدية على ظهورهن، يصطففن أمام الباب انتظاراً لفتحه علّهن يحظين بأرقام انتظار 1 أو 10 أو حتى 50. إمسي التي جاءت حاملة طفلها الثالث إبن الشهور التسعة بعد رحلة استغرقت ساعتين، وجدت نفسها تحمل الرقم 70 على رغم أنها وصلت إلى البوابة قبل السادسة صباحاً. «لكن ما تقدّمه العيادة لي ولإبني يستحق الكثير» كما تقول.
إمسي عاملة منزل، وعلى رغم حاجتها البالغة للمال، إلا أن موعد زيارة العيادة لمتابعة حالتها وصحة إبنها لا مجال للتفاوض فيه. فهي إن اشتدّ عليها مرض، أو ضعفت صحة المولود، ستجد نفسها وطفلها في الشارع. صحيح أن أبناءها الثلاثة الآخرين يعيشون في كنف والدتها بعيداً، إلا أنها لا تزال مطالبة بإرسال المال اليهم بغرض إعالتهم.
وليست كلفة المعيشة وحدها ما يقلق «إمسي». فأكثر من 8 آلاف إمرأة وطفل يترددون على العيادة شهرياً، والنسوة بينهم قلقات من الإيدز!
فنسبة كبيرة من المترددات على العيادة مصابات بهذا المرض. تقول الدكتورة باسات: «نحن لا نتابع الأمهات الحاملات للإيدز، فقط نتابع النساء الحاملات للمرض والراغبات في الحمل للتأكّد من أنهن سيلدن أطفالاً غير مصابين. ولأن نسبة الإصابة بالإيدز في جنوب أفريقيا من الأعلى في العالم، فإن الإجراء الروتيني لأي مريضة أو طفل يتردد على العيادة يشمل اختبارين: واحد للإيدز والثاني للدرن».
وتتضمن العيادة التي تقدّم خدماتها من دون مقابل، قسماً خاصاً بمريضات الدرن، أو من يُعتقد إصابتهن به. القسم المعزول عزلاً طبيعياً، حيث الشمس والهواء وتشييد المبنى الخاص بطريقة تضمن اتجاه الهواء من الخارج إلى الداخل وليس العكس.
وبخلاف ما يعتقده بعضهم من أن على مريض الإيدز الانزواء جانباً وانتظار موته، فإن الفكرة التي تقوم عليها العيادة هي إعطاء المصابات «بداية جديدة».
ليليان القادمة من زيمبابوى تقصد العيادة بصفة دورية حاملة معها إبنها والإيدز. تنظر إلى إبنها نظرات طويلة وكأنها لا تصدق أنه بين يديها. تقول بفخر: «لقد خضع للفحص الثاني اليوم وهو لا يحمل الفيروس. أنا أم محظوظة»!
أمهات محظوظات كثيرات يترددن على العيادة. منهن من علمت بإصابتها بالإيدز أثناء الحمل، ومنهن من أتت وهي على علم بمرضها. ما يعني العيادة هو توفير المعلومات والرعاية الصحية القائمة على المعرفة والتعامل مع المترددات باعتبارهن وحدة متكاملة، حيث المتابعة النفسية، والجسدية والصحية.
«مشاركة الرجل»
و «بناء الأسرة» هو عنوان قسم قائم بذاته في العيادة، حيث تقديم الخدمات الصحية والنفسية للنساء والرجال الراغبين في الإنجاب. تقول باسات: «مهمتنا تحقيق رغبات المترددين علينا في حلم الأمومة والأبوة، لكن في الحدود التي تضمن مولوداً في صحة جيدة».
ويظن آباء كثر أن مهمتهم تنتهي عند حدوث الحمل، وهو ما لا تعتقده العيادة، إذ تخصص برنامجاً مكثفاً عنوانه «مشاركة الرجال». الاستشاري النفسي جاكوب ماوتلهوبان يعمل في مجال تقديم الاستشارات النفسية للمترددين على العيادة، وغالبيتهن من النساء. يقول: «قليلون فقط من الرجال حول العالم من يصطحبون زوجاتهم إلى طبيب أمراض النساء أو عيادة التوليد. هم يكتفون بالمتابعة من بعد، ظناً منهم أنها «بيزنيس» نسائي. لكننا في العيادة لا نظن ذلك، بل نعمل على دفع الرجال لاصطحاب زوجاتهم في زياراتهن إلينا لدرجة أن بعضهم بدأ يداوم على حضور دورات تدريب الأمهات لمرحلة الولادة وما بعدها». ويضيف: «تبدأ الأبوة مع حدوث الحمل، وعلى رغم ذلك فالغالبية تتحجج بالعمل أو التعب أو عدم الرغبة في التدخّل في شؤون النساء، وهو ما نعمل على تغييره من أجل مصلحة الأم والطفل والأسرة الصحية والنفسية».
عيادة «ويتكوبن» ليست كأي عيادة أخرى. آلاف النساء والأطفال، من خرج منهم إلى الحياة ومن لم يخرج بعد إضافة إلى أعداد متزايدة من الرجال، يلجأون إليها كملاذ آمن يضمن لهم مقداراً متضائلاً من الصحة والرعاية. وتتحدّث إحدى المترددات عن شعورها في هذا المكان، حيث «لم أعد مجرد دولار إضافي في خط الفقر، أو حمل إجباري في بيت عائلتي، أو مشروع مريضة إيدز يلفظها المجتمع. فقد تحولّت إلى إنسان له كيان وملف طبي، ألتقي وجوهاً مألوفة لا تكتفي بسؤالي: كيف صحتك؟ أحسن؟ بل أُسأل عن مزاجي وحالي وأحدث أغنية سمعتها وآخر مشكلة واجهتها».
نقلا عن الحياة