نعم سيادة الرئيس، نحن بلد فقير ، هكذا تقول الأمم المتحدة وهكذا تقول المؤشرات الاقتصادية، ومع ذلك فقد حبى الله هذه البلاد بكل مقومات النهضة والتطور، شعب متعدد الاعراق ، تنوع ، ثروة حيوانية هائلة، نملك ضفة نهرية تقدر ب600 كلم لو استغلت بشكل جيد لأصبحنا سلة غذاء العالم العربي والافريقي ، شواطئ من اغنى شواطئ العالم بالأسماك ، لدينا الحديد و الذهب ، لدينا من الثروات ما يمكننا من ان نصبح سنغافورة او سويسرا او دبي شمال افريقيا ، نملك كل ذلك ومع ذلك مازلنا نعيش الفقر والجهل والتخلف الخ !!!.
ذلك بفعل منظومة الفساد التي نمت وتطورت عبر السنين في بلادنا والتي تنتج يوميا عشرات رجال الأعمال ورجال السياسة ورجال النفاق بدل انتاج الغذاء والدواء و المعرفة.
تثبت تجارب النجاح المختلفة ان التحول من الفقر والتخلف إلى الرفاهية والتطور لا يتطلب ثروات طبيعية ضخمة ولا موقعا جغرافيا خاصا ، بقدر ما يتطلب ارادة سياسية جادة وابتكار لنموذج اقتصادي مناسب لظروف البلد وخصوصيته، وقرارا حاسما بالحرب على الفساد اولا ، القاسم المشترك بين كل التجارب الناجحة من سنغافورة ، إلى بوتسوانا و ماليزيا و جورجيا ورواند، هو محاربة الفساد، فلا تنمية مع الفساد.
وقد اعتبر الشباب في مختلف أنحاء العالم حسب مسح أجرته مؤخرا منظمة الشفافية الدولية ان الفساد، وليس الوظائف أو نقص التعليم، هو الشاغل الأكثر إلحاحا في بلدانهم** .
صحيح ان القضاء على الفساد عملية صعبة جدا ، ومكلفة وغير جماهيرية ولكنها ليست مستحيلة، ذلك ما تثبته تجارب النجاح المختلفة ، فهذه بوتسوانا صنفت من طرف “منظمة الشفافية الدولية” سنة 2001 على أنها اقل البلدان الأفريقية فسادا ، على قدم المساواة مع البرتقال وافضل من ايطاليا ، اما جورجيا فبعد أن كانت من بين أكثر الدول فسادًا في جميع بلدان أوراسيا، تحولت بفضل الجهود الجبارة التي بذلها الرئيس ساكاشفيلي لتحتل المرتبة 11 من بين 197 دولة في مؤشر مخاطر الرشوة للأعمال عام 2014، متقدمة بذلك على دول مثل النرويج وفرنسا وهولندا وسويسرا وبريطانيا والنمسا . بينما اعتمدت سنغافورة في «ثورتها الأخلاقية ضد الفساد» على شعار باني النهضة السنغافورية لي كوان يو ، وهو «إذا أردت أن تنشئ حكومة جديرة، فلا بد أن تُسلّم زمام المسؤولية فيها إلى أشخاص جديرين بالمناصب»*** اي اشخاص لا يمكن أن يكونوا فاسدين ، بينما الكفاءة لا تمنع الفساد. وقد حول الرجل الجزيرة الجافة القاحلة، التي لا تملك موارد حقيقية ، إلى دولةٍ من أنجح الدول في التاريخ الحديث، بمعدّل دخل سنوي للفرد يتجاوز الـ23 ألف دولار، ما يمثل ضعف معدل الدخل لدى كوريا الجنوبية.
في حين اعتبرت المنظمة رواندا اليوم أفضل من إيطاليا واليونان بعدما كانت تعتبر أسوأ من اليمن وليبيا. ولرواندا قصة نجاح مميزة مع محاربة الفساد.
رواندا و الفساد
لقد وجد العسكري النحيف ، بول كاغامي نائب الرئيس باستور بيزيمونغو ووزير دفاعه الذي تولى الحكم بعده سنة 2000 دولة مهدمة بعد حرب اهلية قتل فيها أكثر من مليون شخصا، ليس لديها بترول ولا تملك منفذا بحريا و محاطة بمجموعة من الدول الفقيرة. لم يكن الرجل يملك عصا سحرية ، ولكنه كان يملك إرادة اصلاح جادة وايمانا كبيرا بقدرات شعبه ومشروعا وضع في أولويته مكافحة الفساد ، وحكومة نزيهة وفعالة، وضعت خطة لتطوير الاقتصاد أهم محاورها قطاعي الزراعة والسياحة، ولم تنتظر المساعدات ولا المنح الدولية ، وبعد 5 سنوات فقط ، بدأ الرواند يون يحصدون النتائج .فقد أصبحت الزراعة و السياحة تمثل 70% من القوة الاقتصادية للدولة وأصبحت الصادرات الرواندية تغزو العالم ،اما السياحة فقد بلغت إيراداتها أكثر من 400 مليون دولار بنسبة 43% من الدخل الإجمالي للبلاد و صنفت رواندا سابع أسرع نمو اقتصادي في العالم بنسبة 7.4% وقد تضاعف مستوى معدل الدخل الفردي ثلاثة مرات خلال السنوات الاخيرة و تراجع الفقر من 60% إلى 39%،ونسبة الأمية من 50% إلى 25%، وارتفع متوسط حياة الفرد من 48 عاماً إلى 64 عاماً .
كل ذلك بفضل جملة من الاجراءات الغير معقدة اهمها :
معالم في الطريق*
- · تكوين «لجنة الوحدة الوطنية والمصالحة»
اشرفت على المصالحة الوطنية التي مكنت من خلق جو مناسب لتحقيق المشروع الاصلاحي للرئيس وقد اسست لنظام عدالة محلي واجه الكثير من الاعتراضات من طرف المنظمات الحقوقية الدولية ،
- محاكمات فساد رفيعة المستوى اظهرت للرأي العام جدية النظام ،
- تكليف لجنة برلمانية بمراقبة ثروات المسؤولين وممتلكاتهم ،
- إنهاء الامتيازات التي كان يتمتع بها السياسيون ورجال الأعمال البارزون وكبار الضباط عبر إصلاح جباية الضرائب ،
- تسهيل واعتماد الية للانتصاف ضد إساءة استخدام السلطة،
- استبعاد آلاف الموظفين الوهميين من كشوف المرتبات العامة،
- استبعاد آلاف الموظفين الغير المؤهلين،
- إطلاق حملات لاستطلاع رأي الشباب بشكل دوري حول موقفهم من الفساد
واستخدام تلك الحملات في التوعية حول مخاطره ،
- استدعاء ودمج الجنود والضباط الذين كان لهم دور في الحرب الاهلية في الجيش الرواندي الجديد،
- اعتماد قانون يحظر الحديث عن المجموعتين العرقيتين (الهوتو والتوتسي) بين الروانديين ،
- استقطاب الاستثمارات الخارجية وإعطاء أولية للبنى التحتية للتعليم والصحة،
- تخصيص 44% من الميزانية للتعليم والصحة،
- تغيير المناهج التربوية و اعتماد اللغة الإنجليزية بدل الفرنسية.
د. محمد ولد الدوه ولد بنيوك
مدير الاستراتيجيات والبرمجة بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي وتقنيات الاعلام والاتصال سابقا
المراجع
* تحويل رواندا” (2019) لجان بول كيمونيو
** كلمة السيدة كريستين لاغارد، مدير عام صندوق النقد الدولي في معهد بروكينغز، واشنطن العاصمة، 18 سبتمبر 2017 .
*** قصة سنغافورة : مذكرات لي كوان يو