تناهى الى مسمعي صبيحة هذا اليوم الذي كنت أخاله سيكون ، يوما عاديا يبدأ بإشراقة شمس ثم ينتهي بوميض نجوم خجول، وبين البداية والنهاية، قصة الدقائق الباردة و الروتين المألوف.
تنهى الى مسمعي ما جعل اليوم الثلاثاء الموافق 13 مايو 2014 ، يوما مزلزلا ، يحمل بين خباياه وثناياه بيارق القدر التي تطل برأسها فجأة فتجبرك على الانحناء ، وكأنك ورقة من صفصاف واجمة على غصن ذاو ،أمام ريح صرصر لا تملك من أمرك شيئا.
ناح نائح بصوت مكسور،و ببحة وانين، وهو يقول :” إنا الله وإنا إليه راجعون …. لقد سلم الوالد العزيز و الرجل الصالح، نفسه إلى بارئها ، رحموا عليه ….؟
تساءلت في بديهة وبلاشعور ، من المعني ؟ ونبضات قلبي تسابق عبرات عيني و عبارات لساني .
رد النائح ، انه محمد سالم ولد بله ………………..!!!
وقع الخبر علي فؤادي كوقع النبال،وأحسست لبرهة أنني أتحول إلى مومياء محنطة، جامدة كجمود الصقيع.
نعم …تلك هي اللقطة الأولى من مشهد وصول خبر وفاة الرجل ” الأمة “الذي كنت اسمع عنه أكثر مما التقيه ، وأشاهد من فعاله أكثر مما اسمع من مقاله ، لكنني لم اشعر يوما بغربتي عنه،ولم أحس في دواخلي بعد الشقة بيني وبينه ، بعد العاصمة انواكشوط من مدينة افديرك الهادئة الوديعة التي أعطاها من عمره وجهده وماله و فكره ….كل شيء.
وعشت منذ أن اشتد عودي وأصبحت أعي الأشياء وأدركها،وكأنني معه،أساكنه،أجاوره، التقيه،حسا لاجسدا.
كان ولد “بل” بالنسبة لي ـ ولست الوحيد في ذلك ـ رمزا ملهما ، و قدوة ، بل بوصلة اهتدي بها في غيابات جب الزمن السديمي الذي نعيشه والذي كثيرا ما نفقده فيه البوصلة .
كان الصورة المجسدة لقوة الإرادة وعصامية التكوين و الإيمان بالإيمان بالخالق جلت قدرته و الصدق في المعاملة وطيب السريرة والإنفاق في السر والعلانية ، وصلة الرحم و المواظبة على أداء الفرائض في أوقاتها و “فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيـهَا اسْمُهُ يُسَبِّـحُ لَهُ فِيهَـا بِالْغُـدُوِّ وَالآَصَـالِ*رِجَـالٌ لاَ تُلْهِيهِـمْ تِجَـارَةٌ وَلاَ بَيْـعٌ عَـنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَـامِ الصَّـلاةِ وَإِيـتَـاء ِالـزَّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ”.
كان لين العريكة ، يلاطف الجميع ، ويحنوا على الجميع ، ويصل المريض و ذو الرحم و يغرى الضيف و يعطف على الضعيف .
كان دائما جسرا يصل ويصلح بين الناس ،ولم يقبل يوما قط أن يكون طرفا في ما يمكن أن يؤدي إلى شحناء أو تفرقة.
كان رحمه الله، حسن الخلق والخلق، عفيف اللسان، متواضعا، من أولائك الذين قال الله عز وجل عنهم : “وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجـــــــاهلون قالوا سلاما”.
نعم … الموت حق ، لكنها مؤلمة حين تقتلع جذور شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
نعم … الموت حق ، لكنها موجعة حين تختلس منا فجأة ، احد الكبار الذين لا يمكن ان نستنسخ صورا لهم ، واحد الرجال الذين لايتكررون.
هنا تختلف المصيبة ويختلف طعم الموت ويختلف لونه وتختلف معركته و نرغم على التنازل لنزاله، ولا نملك حينها سوى ان نطلق سراح العبرات و نسمح للدموع ان تحفر خطوطها العميقة على خدودنا الذابلة ،ونترك للصوت المبحوح فينا ان ينطق ، وان تنطلق التأوهات والآهات والأنات والزفرات و…….؟.
نعم …هو الألم تصهل جياده من افديرك لتضرب بحوافرها في كل قرى ومدن البلاد ، في يوم تتعرى فيه الذات و ينتصر فيه إنسان الطين على إنسان الجسد المضمخ بالأنا و المتخم بقوة الوهم و جبروت ” أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ “.
لكن ، وفي وسط جعجعة الصخب و هول المصاب ، وهدير الألم،لا بد من أن نستعيد اللجام ، وندرك ان عزائنا في رزؤنا ومصابنا الجلل ، ما قدم خلال حياته المباركة من عمل يشهد له به لاعليه، نسال الله ان يتقبله في الأولين انه سميع مجيب.
إن العين لتدمع والقلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا محمد سالم لمحزونون.
اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نُزُله ووسع مُدخلهُ واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهله وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار”.
لله ما أخذ و لله ما أعطي ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
وإنا لله وإنا إليه راجعون ..
عبدو ولد أحمين سالم
لا نقول الي ماقال صلي الله عليه وسلم.ان العين لتدمع وان القلب ليحزن وانا لفراقك لمحزونين.ولا نقول الي ما يرضي ربنا…انا لله وانا اليه راجعون