فور إقالته من الإذاعة أصدر محمد الشيخ ولد سيدي محمد بيانا جاء فيه:
“الأقلام التي لا تنكسر هي تلك التي لا تخبو جذوتها، ولا تتغذى على موائد التعيين، عبثا يظن بعضهم أننا نؤيد رؤية موريتانيا الجديدة بقيادة محمد ولد عبد العزيز التي كسرت الجليد مرات عدة، لأننا موظفون، أو مدراء مؤسسات، نحن نؤيد هذه الرؤية التي جنبت الموريتانيين بكل أطيافهم ومشاربهم ربيعا قانيا من دماء وأشلاء الأبرياء، وأعادت للمحظرة والمئذنة ألقها الذي كان وضاء ومشعا منذ عشرة قرون، وشرب منها الموريتانيون الماء الزلال واللبن الحلال، ورتعوا في الأمن والأمان.
نحن وواجب التحفظ زال بسبب (عهدة الهابا) منذ 2008 أيدنا هذا النهج، ومنذ اعتلينا صهوة الجواد، سهرنا الليالي والأيام الطوال، نخطط وننفذ ورشا ملأت الآذان الواعية والمسامع الصادقة في كل ركن من زوايا وطننا الحبيب. أربع سنوات، وأربعة أشهر، وسبعة أيام، وها أناذا أعلنها اليوم، خاليا من ارتهانات الوظيفة، وبتوقيع مدادي، ودون وجل أو تلعثم، سندعم رؤية وقيادة محمد ولد عبد العزيز لموريتانيا، إنجازات، وخيارات، وماضيا، وحاضرا، ومستقبلا، ليس بالكلام، ولا بالهرطقات، بل بالأفكار، والأعمال، وريع القلوب والنيات الحسان.
ووصيتنا التليدة أن ما قدمناه في هذه الأربع لن يضيع، لأن الله يعلم ويسمع ويرى وشهداؤه في الأرض لديهم معرفة بصدق القول وشجاعة الفعل”.
هذا البيان على قصره يحوي من الأخطاء اللغوية والفكرية ما لا يمكن إيضاحه أو شرحه في مساحة مقال، لذلك سنكتفي بمجرد الإشارة إلى الفقرة الأولى، وإلى الفقرة الأخيرة، مثالا لما بينهما.
قال في الفقرة الأولى: (الأقلام التي لا تنكسر هي التي لا تخبو جذوتها ولا تتغذى على موائد التعيين).. هذا الكلام فاسد مبنى ومعنى، فجملة (لا تخبو جذوتها) هي نفسها جملة لا تنكسر، فهي بدل منها أو تأكيد لها، ثم جاءت جملة (لا تتغذى على…) معطوفة على المبتدأ، فضاع بذلك الخبر، ومعه ضاعت الفائدة.
ولو أخذ الكلام الصيغة التالية لكان مفيدا:
الأقلام التي لا تنكسر ولا تخبوا جذوتها، هي التي لا تتغذى على موائد التعيين.
وقال في الفقرة الأخيرة:
ووصيتنا التليدة أن ما قدمناه لن يضيع، لأن الله يعلم ويسمع ويرى، وهذا أيضا كلام فاسد مبنى ومعنى لأن صيغة “وصيتنا” لا توضح في هذا السياق وضع محمد الشيخ، هل هو موص (اسم فاعل) أم هو (موصَى) اسم مفعول؟ لأن كلمة (وصيتنا) تحتملهما بالتساوي، لكن الكارثة جاءت عندما وُصفت الوصيةُ (بالتليدة) فانحسم الأمر، وأصبح محمد الشيخ موصًى فقط (اسم مفعول)، ولا يحتمل أن يكون موصيا بحال، وذلك عكس المراد.
إن التليد والتلد والتالد والتلاد في كلام العرب صفة للمال الناتج من أصول قديمة موروثة، ويقابله الطريف والطارف وهو المكتسب غير الموروث، وكل شعر العرب، من المهلهل إلى محمد الحافظ ولد أحمدو، عامر بهذه الثنائية (التليدة)
إن العربية التي تكتبها، وتفسدها، وتلحنها ترغمك يا محمد الشيخ على أنك موصًى من حيث اعتقدت أنك موصٍ.
هب أنك موصٍ كما تريد، فمن يكون الموصَى؟
لا يوجد في البيان أي أثر يمكن أن يوصل إلى هذا المفقود، ولكنك تجد نص الوصية واضحا:
(إن ما قدمتُه في هذه الأربع لن يضيع!)
وكيف ذلك؟
يجيب محمد الشيخ: (لأن الله يعلم ويسمع ويرى).
نعم: يعلم ويسمع ويرى كل شيء، أزلا وأبدا، فأين هو فضل الخصوص الذي “يميز” وصية محمد الشيخ، في هذا العموم المطلق المحيط؟.
على كل حال هذا البيان تصفيقة مألوفة في مثل هذه الحالة ومتوقعة جدا.. وهي تقليد أصيل متبع بين خريجي “محظرة الشيخ معاوية ولد الطائع”، صاحبة الفضل الحقيقي – دون غيرها من المحاظر – في إخراج بعض زملائنا من العدم إلى الوجود، ومن التنكير إلى التعريف، وأيضا من النور إلى الظلمات.
قصة الولادة هذه ليست موضوعنا الآن، ولا القماط “البشروي” الذي لف فيه الوليد ساعة ولد، ولا الثدي الأولى التي رضع منها “القذع” و”القذارة” يوم ولد، كل ذلك – وغيره- يمكن التعاطي معه في وقته بمقالات أو كتب، فهو يسع كل ذلك ويفيض.
إنما موضوعنا الآن أن نستنجز محمد الشيخ وعده الذي قطعه على نفسه بقوله: سندعم رؤية وقيادة محمد ولد عبد العزيز… حاضرا ومستقبلا بالأفكار والأعمال، وريع القلوب!
أسألكم بالله يا بني آدم هل سمعتم من قبل بشيء اسمه ريع القلوب، يخطط محمد الشيخ لاستخدامه في دعم رؤية الرئيس عزيزّ؟
لا حول ولا قوة إلا بالله.
آسف لأني لا “أتابع المواقع الالكترونية.. ولذلك أوصيت من هم حوالي أن يأذنوني إذا كتب محمد الشيخ، وقد كتب الكثير بعد تصفيقته الأولى، ولم يكن فيما كتب أي دعم لرؤية الرئيس، ولو بريع القلوب!.
أخبروني في المرة الأولى أنه كتب، وقالوا إنه أجرى مقارنة بين الإذاعة يوم استلمها، والإذاعة يوم غادرها. ولم أشأ أن أطلع عليها.
وجاءوني في المرة الثانية بخلطة لا قدرة لي على قراءتها ولا على هضمها، خلطة ثقيلة من الاسمنت أو الخرسانة… مصنعة بتقنية (كوبي كولي) الغوغولية العتيقة.
قال أحدهم – بابتسامة تهكم – إن فيها خطة استراتيجية من محمد الشيخ لحل مشاكل العراق وليبيا دفعة واحدة.
ما السر في عدم ظهور أي دعم لرؤية الرئيس؟
أظن والله أعلم، أنه ساعة الإقالة التي فاجأته، وَضَعَ أمامه احتمال أنه مُرادٌ لأمر آخر، فبادر – استعجالا لذلك الأمر، وتمهيدا لطريقه – إلى (التصفيقة – البيان).
لكن مؤشرات مستجدة جعلته يستشعر بأن احتمالا آخر، غير الأول، هو الأرجح، فكان ذلك مدعاة للتريث وإعادة تقدير الموقف.
الرجال، في علاقتهم بالدولة صنفان – والدولة تحتاجهما معا – صنف يسمون أهل المبادئ، وهؤلاء تلتقي مبادئهم أحيانا مع مصالح الدولة فيخدمونها وتخدمهم، وعندما تفترق المبادئ عن المصالح تذهب الدولة مع مصالحها ويبقى أهل المبادئ على مبادئهم.
وصنف يسمون “خدام” الدولة أو مجانين الدولة، فهم معها، ومنها، وإليها، وبها، ومن أجلها… لونهم لونها، وطعمهم طعمها، وريحهم ريحها، يؤمنون إذا آمنت، ويكفرون إذا كفرت، وينافقون ولو لم تنافق.. وحتى حين تطردهم فإن ولَعَهَمْ بها يشتد، وهيامهم يتضاعف، كالخنفساء التي مهما رميت بها بعيدا، فإن بوصلتها لا تخطئك أبدا، وتعود إليك بأسرع من المرة السابقة.
وإلى أن يعود من يعود إلى الدولة، أو تعود إليه الدولة، أو يتعاودان، مشيا من هنا وهرولة من هناك، فنحن في انتظار دعم رؤية الرئيس بالأفكار، والأعمال.. ثم؟.. بريع القلوب!؟.
أصدقكم القول إني من يوم تلك الخلطة أصبحت أشك في الحالة العقلية لصديقي محمد الشيخ، لأني أعلم، علم اليقين، أن آخر ما يمكن أن يخطر له على بال، في الظروف العادية، هو عراق الحجاج بن يوسف، أو صدام حسين، أو “ابريمر”، أو “مقتدى الصدر”.
ثم جاءوني للمرة الثالثة بما كتب فإذا به يدس أنفه في “خميرة” العلاقات الموريتانية – المغربية.. وأحسست بأن شيئا ما في الذاكرة يستيقظ..
ثم خيل إلي أني عثرت على “المصباح” الذي يمكنني من إضاءة “بركة” الألغاز التي يسبح فيها محمد الشيخ.
إن الخوض في العلاقات الموريتانية – المغربية، بل مجرد التذكير بحيثياتها في هذه اللحظة الشديدة الحساسية لا يمكن بأي منطق أن يكون بريئا، أو محايدا.. بل لا بد أنه يستهدف أمرا خطرا، أقل ما فيه أنه قد يأخذ البلاد – بدوافع وطنية غير مسيطر عليها – إلى وجهة أخرى، غير الوجهة التي نحن بصددها الآن.
إثارة موضوع العلاقات الموريتانية – المغربية، في هذه اللحظة، يراد به فتح “معركة جانبية” تستنزف طاقتنا، وطاقة فخامة الرئيس خصوصا، على توجيه وقيادة القمة العربية، والعبور بها إلى “ضفة النجاح”.
وهكذا فهمت – بأثر رجعي – أن الانصراف إلى آلام العراق وشجونه، وعربه وأكراده، وسنته وشيعته، وداعشه وحشده الشيعي، ثم إلى ليبيا، شرقها وغربها، ونفطها وحفترها وحكومتيها، وبرلمانيها.. كل ذلك مطلوب، لا لنفسه، بل للتغطية على الهدف المهم الذي هو تشغيل آلية التجاذب الموريتاني – المغربي، بحيث تأتي هذه الثمرة المنشودة وكأنها غير مقصودة بذاتها، وإنما هي فقرة صغيرة من تحليل شمولي، قذفت به “عبقرية” فيلسوف كوني.!
هل هذه هي الأفكار التي وعدت بها لدعم رؤية الرئيس، أم هي الهرطقات التي تبرأت منها؟ أم هي حل لذلك اللغز المسمى ريع القلوب؟. أتمنى أن أجد الفرق بين ما تسميه فكرا.. وما تسميه هرطقة..؟
إن “فحوى خطابك يدل على أنك تراهما واحدا.
أنا لا أجهل أن بعض الناس يسمون الأشياء بغير أسمائها، لحكمة يعلمها الله.. فإذا قال لك أحدهم إنه مشرِّقٌ فتأكدْ أنه مُغَرِّبٌ، وإذا قال لك إنه ينصب سُلما في السماء فتأكدْ أنه يحفر نفقا في الأرض.. ولله في خلقه شؤون.
ثم جاءتني في المرة الرابعة، كتابة لمحمد الشيخ، هي بين يدي الآن، وقد قررت أن أعلق عليها.
الكتابة هي مقالة قسمها صاحبها نصفين، نصف للمحظرة ونصف للسياسة.
أما نصف المحظرة فقد أعطاه عنوان: “الشأن العلمي”
فماذا قال محمد الشيخ في “الشأن العلمي”؟
قال: (منذ ألف عام أسس أجدادنا، عربا ومستعربين المحاظر).
لا أدري إذا كان أساتذة التاريخ الموريتانيون يعتمدون هذا التاريخ لنشأة المحظرة، إنما أسأل السيد محمد الشيخ عن أجداده العرب والمستعربين، الذين أسسوا المحظرة قبل ألف عام، من هم على وجه التحديد؟ من يعني بالعرب؟ ومن يعني بالمستعربين؟.
مسوغ هذا السؤال أن محمد الشيخ، ككل الشخصيات التي تتصنع هالات الغموض، يحب الصيغ المتعددة الاحتمالات، لأن ذلك يوسع مجال المراوغة والخداع والمكر!.
ومن أمثلة ذلك أن محمد الشيخ، في خطاب رسمي له أمام مدعويه في إحدى ندواته الإذاعية، وكان من بينهم الوزير الرشيد ولد صالح، والنائب محمد ولد احمد سالم ولد طالبن، شن هجوما شرسا على ما سماه “القومية العفنة”، ما أدى إلى انسحاب بعض المدعوين، ومنهم النائب محمد ولد احمد سالم.
وقد فوجئت من الغد بمحمد الشيخ يحدثني – ولم أكن سمعت الندوة – أنه يقصد بـ”القومية العفنة” (افلام)، ثم علمت أنه قال مثل ذلك للنائب، ومن باب أولى أن يكون قد قاله للوزير. أما الذي أنا على يقين منه فهو: أنه قال لقوميي (افلام) مثل ما قال للقوميين العرب، بطريقة معكوسة ترضيهم: لابد أن يقول لهم إنه قصد القوميين العرب العنصريين الشوفينيين.
قياسا على ذلك فإن محمد الشيخ سوف يفسر العرب والمستعربين على وجهين ولكل وَجْه أهلٌ ومستهلكون:
وَجْهٌ يقصر تسمية العرب على قبائل بني حسان الحديثة الهجرة إلى هذه الأرض، أما المستعربون – في هذه الحالة – فهم قبائل صنهاجة القديمة.. ووجه آخر يجعل مفهوم العرب مطابقا لمفهوم “البيظان”، وفي هذه الحالة يكون المقصودُ بالمستعربين إخواننا ومواطنينا الزنوج.
وسواء كانت صنهاجة عربا بالأصالة أو عربا بالاستعراب، فلا نصيب للسيد محمد الشيخ في هذه التركة المحظرية الموروثة عليهم. فلماذا يذري دموع “كابون” الذي “يبكي على حيوان الناس” كما يقول المثل الشعبي؟
إذا صح ما تقوله عن المحظرة فتأكد أنها ليست إرثا عن كلالة.. إن ورثتها من أصلاب أهلها كثيرون، وهم أشداء وألو بأس شديد، وقادرون على حماية ممتلكاتهم وإرث آبائهم.
وماذا قال أيضا:
(ألَق هذه المدرسة العلمية – يقصد المحظرة – اجتاح بغداد والقاهرة، والمدينة المنورة، والبيت العتيق، ودمشق، والخرطوم، وحضرموت، وعمان والأستانة، وبلاد القوقاز)!.
هذا كذب في كذب، فالمحظرة التي يحاول محمد الشيخ اختطافها بهذه الترهات لم تجتح شيئا، فالاجتياح عمل كبير وعنيف تنفذه الجيوش الغازية، إذا اطمأنت إلى تفوقها الساحق، ضد المدن المستعصية على الاستسلام.
الاجتياح المزعوم لبغداد، مثله مثل الاجتياح المزعوم للقاهرة وبقية الحواضر، هراء في هراء، وأكذوبة يتداولونها ويتحذلقون بها، كُلٌ بحسب تخيلاته المريضة.
لكي نرى الحقيقة كما هي، دعونا نطلب من محمد الشيخ أن يعكس القضية ويسأل: من الذي اجتاحنا نحن؟؟ من الذي اجتاح من؟
لنفرض أن القاهرة سحبت “خليلها” وشراحه الكثر من المحاظر الموريتانية، ألا تتوقع ساعتها أن فقهاء محظرتنا سيصعقون صعقة واحدة فلا يبقى له أثر؟!.
أكاد أرى الوزير احمد ولد النيني وقد ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم.. فماذا أنت فاعل إزاء هذا الكرب العظيم، يا محمد الشيخ؟
وماذا لو سحبت بغداد جنيدها، وجيلانيها، وغزاليها، ثم سحبت القاهرة شاذليَها، وسحبت فاس تيجانيها، ألا يعني ذلك أن ثلاثة أرباع الشعب الموريتاني سيجنون؟؟ أكاد أنظر إليهم يشطحون، ويخرقون ثيابهم، ويلقون بأنفسهم من السطوح!
وماذا لو سحبت بغداد أبا تمامها ومتنبيها، وبشارها، ونواسها، وبحتريها، وخليعها، وحمادها، وإلى آخرهم.. ألا يعني ذلك أن أنصار أمير الشعراء وولد عبد القادر وولد المعلى، وكابر هاشم وأبي شجة، ومحمد ولد سيدي محمود ولد بولمساك ومحمد الحافظ ولد أحمدو إلى آخرهم، سيمزقون هويتهم الجامعة ويتيهون في الأرض أيدي سبا؟
من الذي اجتاح من؟ خبرنا يا محمد الشيخ!
هل تعتقد فعلا أن الحقائق ستنقلب تبعا لأمانيك أيها الـ…. استغفر الله العظيم!
وماذا قال أيضا هذا الرجل العجيب؟
(الذين يعملون في دروب تبليغ رسالات الله هذه لا يخشون إلا الله، ولا يريدون إلا وجهه، لا يريدون مالا، ولا جاها، ولا سلطة، ولا حزبا ولا جمعية خيرية ولا عرضا دنيويا بحتا، هم كالجبال الرواسي وغيرهم كظل زائل).
هل أنت متأكد حقا أنك تعمل في تبليغ رسالات الله؟ وأين هي الرسالات التي بلغتها ولمن؟
قل لي إنك بلغت رسالاتك للملائكة أو للشياطين ولن أسألك بعدها، لأني لا قَدَمَ لي في ذلك العالم المستور، أما وأنت منا نحن البشر، وقد مضى عليك بيننا أكثر من عمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، وقد جعل لك الله من هذا البشر كما جعل لرسله أزواجا (ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء) ومنهن مطلقات يتربصن القروء، ومطلقات يتربصن “الدوائر”، وجعل لك كما جعل لرسله ذرية أكثر – والحمد لله – من أسباط يعقوب.
إن هذا كله يجعلك مَظَنَّةَ قدرة على أن تأتي بشاهد واحد أو شاهدة واحدة منهن على أنك بلغته أو بلغتها رسالة أو مجموعة رسالات!.
قل لي يا محمد الشيخ لو أن القاهرة سحبت ناصريتها وحسنها البناء، وسحبت دمشق أو بغداد بعثها، وسحبت لاهور إلياسها، وسحبت بيجين مَاوَها، فماذا يبقى؟، هل أنت قادر على تصور ذلك يا صاحب مزاعم الاجتياح؟
هل تأكد لك أن هذا البلد عقيم لا ينتج شيئا، ولا يمكن أن يجتاح شيئا، ولا أن يحمي نفسه دقيقة واحدة من الاجتياح.. هل تدرى ما سبب ذلك؟ سببه أنت وأمثالك ممن يحترفون تجميع التخلف وتحنيطه، وتنضيده، وتنظيمه ثم عبادته، وتخليده وتعميمه، ثم بيعه، واستثماره، والاعتياش عليه.
قال محمد الشيخ يصف أهل المحظرة:
(يدرس هؤلاء ذلك الكتاب.. هذا القرآن، هذا الصراط المستقيم، هذا النبأ العظيم، هذا الكتاب المبارك، هذا الهدى القويم، هذا الفرقان، الذكر الحكيم، الشرف العظيم، القرآن المجيد، الهدى والرحمة، الموعظة والذكر والنور المبين).
كذاب.. كذاب.. كذاب..
ولكن ماذا يتوخى محمد الشيخ وهو يفتري هذا الافتراء، من جلب هذا القطار الطويل المؤلف من ثلاث عشرة عربة مزدوجة، كل واحدة منها تغني عن مجموع الباقيات؟
من عادة العيي إذا أحس بضآلة فكرته وتفاهتها وبؤسها، أن ينزع في مسعى تعويضيٍ، إلى الألفاظ، يقيمُ منها ما يشبه المعرض التشكيلي، بما يصرف الناس عن هزال الفكرة. هذه الحيلة مضمونة النجاح دائما مع الغوغاء والدهماء، والسيد محمد الشيخ يعرف ذلك، وهو يتصيد إعجابهم بمهارة ودأب، حتى إنه ليورد اللفظة التي لا يعرف هو نفسه معناها الدقيق ولا موقعها المناسب من الجملة، لمجردِ أثرها المتوقع في نفوس الغوغاء.
البسطاء وأصحاب المستويات الواطئة يعرفون أنفسهم، لذلك تجدهم يحكمون دائما على النص الذي فهموه بأنه منحط، بينما يصفقون ويحركون الرؤوس علامة الإعجاب لما لم يفهموا، ليوصلوا للآخَرِ رسالةً بأنهم من هذا المستوى الصعب، لا من ذلك المستوى السهل.
فضلا عن ذلك إن محمد الشيخ حاول بجهد استقصائي جمع كل النعوت الواردة في القرآن عن القرآن، لكنه لم يوفق، ببساطة لأن محمد الشيخ ليس حافظا للقرآن وإن كان – بلا منازع – سيد المزايدين به وعليه.
وكمثال على ما عجز محمد عن الوصول إليه من نعوت القرآن في القرآن قوله تعالى في سورة الزخرف: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ. وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ}. والحق في الآيتين هو القرآن.
العجز عن الوصول إلى بعض نعوت القرآن في القرآن ليس مشكلة، ففي ما ورد كفاية وزيادة، بل المشكلة أن صاحبنا جاء بنعوت من عنده لم ترد في القرآن، وما كان ينبغي له ذلك، لأن القرآن كلامُ الله، وكلام الله صفته، وصفة الله لا يُتعامل معها بالمنهج الاختراعي، أو الارتجالي، أو الاعتباطي.
لا يكفي أن تعرف الصفة منفردة، بل لابد أن تعرف الذات الموصوفة أيضا، لكي تصح نسبة الصفة للموصوف، أما إذا بقيت الذات الموصوفة مجهولة – وهي باقية قطعا – فإن نسبة الصفة للموصوف تبقى مجهولة ولابد، واقتحام هذا المجهول خطر عظيم لا ينبغي بل لا يجوز لعاقل أن يتردى فيه.
لقد أورد محمد الشيخ أن القرآن هدي قويم ولم يرد في القرآن هذا الوصف.. بل لم ترد في القرآن كلمة “قويم” على الإطلاق.
وأورد أن القرآن شرف عظيم، ولم يصف القرآنُ القرآنَ بأنه شرف عظيم.. بل إن كلمة (شرف) لم ترد في القرآن أصلا.
وبقي ما هو أعجب، اسمعوا هذا العجب العجاب! قال محمد الشيخ:
(وقد جعل الموريتانيون القرآن ربيع قلوبهم، وجلاء أحزانهم، وأنيسهم، في حلهم وترحالهم، وغاية مأربهم، وشرف عزهم، وإليه يضربون الأكباد، ويلهجون، سواء منهم {من أسرَّ القولَ ومن جهر به، ومن هو مستخف بالليل، وسارب بالنهار}، سورة الرعد، الآية: 10.
سنعلق على الفقرة العجيبة من وجهين أحدهما لغوي نؤجله إلى حين، والوجه الثاني من حيث أنها خبر كاذب يستدعي بعض التوضيح.
هذا الكلام مسلوخ من حديث نبوي شريف روي أصلا مسندا لياء المتكلم، بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد الثناء على الله بما هو أهله: “أسألك بكل اسم هو لك…”، إلى أن يقول: “أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب غمي”.
وكما ترون، فإن هذه المنة العظيمة التي ليست بيد أحد إلا الله، سطا عليها السيد محمد الشيخ، كما سطا على المحظرة، وبخل بها على النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان يلح في سؤالها ربه، ثم وزعها، من غير رغبة فيها، على أجلاف، وعلوج، وأعراب صحراء الملثمين الذين هم {أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله}.
الفقرة التالية تقول:
(وقد أخذ هؤلاء على عواتقهم تطويع كل العلوم من سنة، وفقه، وسير، وأصول، ولغة، ومنطق، وحساب، وعلوم آلة، لكتاب الله وبذلك خدموا الدين والأمة المسلمة، في كل مكان وفي كل زمان).
هذه فقرة لا قيمة لها البتة، اسطوانة مشروخة رددها محمد الشيخ كما يرددها كل الببغاوات، لكن صياغة محمد الشيخ تستحق التأمل.
بدأها بتطويع (كل العلوم)، ثم دخل في تفصيل هذا (الكل) فأوصله إلى سبعة علوم، ثم عاد وأجمله ثانية (بعلوم آلة) لكتاب الله، ثم عطف هذا الإجمال الأخير على مُفَصَّلِه في الوسط بين الإجمالين.
لولا أني لا أحب الاغتياب – كما يستسهله محمد الشيخ – لجزمت بأن أي نفس لا تكونُ بهذا المستوى من الفوضى والاضطراب، إلا إذا كانت تحت تأثير مخدر فعال.
في كل الأحوال: إن كتاب الله لا شأن له بآلات الخردة الصدئة التي يجمعها “المعاتيه” من المشتغلين على خداع أنفسهم وخداع الغوغاء.
ثم ماذا؟
(هذه الصناعة المحظرية تخرج منتجا قل نظيره، الحافظ، المحدث، العلامة، العالم، العبد الصالح، أمير الشعراء، الفقيه، القاضي، الإمام، المفتي، هي أنبل ما أنتجته مرابع الموريتانيين منذ أزيد من عشرة قرون).
لا.. لا يا محمد الشيخ، لا تقل إنه قل نظيره، بل قل – وأنت صادق لأول مرة – إنه لا نظير له، ولن يكون له نظير على الإطلاق!
أحد عشر منتجا يزودنا بها-على ذمة محمد الشيخ- هذا المصنع الممتد على مسافة أو مساحة أزيد من عشرة قرون. لكن الذي لم أجد له تفسيرا هو أن (جوهرة) أمير الشعراء تحتل الرقم ستة في هذا العقد “الخزفي” الذي يحلي جيد صديقنا محمد الشيخ، سواء كان العَدُّ نازلا أو صاعدا فإن (جوهرة أمير الشعراء) هي واسطة العقد دائما، هي الرقم ستة.
ما حيرني أني أعلم علم اليقين، وانطلاقا من تجربة يعرفها معي بعض الشعراء المشاهير أن محمد الشيخ لا يميز الشعر من النثر، فلماذا جعل جوهرة أمير الشعراء واسطة عقده الخزفي؟
إن ترصيع العقود ذوق وفن تتقنه “الشواعر” من النساء، فهل توجد بين سواكن “الحجرات” “خنساء” ساعدت محمد الشيخ على نظام عقده الخزفي الفريد؟
أنا آسف لأني لم أحظ بمعرفة أمير الشعراء، ولا أعرف إن كان محظريا أو غير محظري، لكني أوصي من يقرأون هذا الكلام، من معارفه الأدباء أو النقاد، أن يقيسوا درجة الإبداع لديه، فسيجدونها على علاقة طردية، بمستوى التمرد على المحظرة!
ربما يقول قائل إن بن المعلى مبدع، وهو في الوقت نفسه محظري أصيل!
ذلك صحيح، وتفسيره أن بن المعلى – مع تمحظره – يحترف السباحة الخطرة والغوص على اللآليء في بحر الأدب الشعبي العميق.. وبحر الأدب الشعبي ظل على الدوام خارج سلطان المحظرة أو خارجا عليها، ومستخفا بها، وذلك مصدر تفوقه على الفصيح. فالحرية التي يمارسها بن المعلى في ركوب الأمواج العالية في بحر الأدب الشعبي انعكس لها صدًى جيدٌ – برغم أنف المحظرة – في أدبه الفصيح، تلك هي الحقيقة!
ونعود بعد هذه الجملة الاعتراضية الطويلة إلى عالم محمد الشيخ.
(ومن الواجب الفصل بين الشأن الدعوي والتعليمي الرباني لهذه المدرسة العلمية وجهلة المدرسة السياسية التي تعرف من خلال ثلاث علامات، لحن القول، وجهل أحكام الفرائض الخمسة، وسهولة انتهاك المحرمات).
من أين جاء محمد الشيخ بهذه الثلاث؟
الحقيقة أنه سمع حديثا نبويا يقول: “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب…” إلخ.. فقرر أن يسلخ منها ثلاثا لحسابه، وعلى قياس عقله وفهمه، فجاءت هذه الثلاث المضحكات. وأولها “لحن القول” فما هو لحن القول؟؟.
لحن القول أن تتحدث في المجلس فيفهم الناس العاديون الكلام في أبعاده المعتادة، ويكون في المجلس من يربطك به خصوص علاقة، فيفهم من حديثك بعدا آخر لم يفهمه غيره!.
يتضح من هذا أن القول – في ذاته – لا يوصف بأنه لحن أو غير لحن وإنما ذلك بالنسبة للسامعين فإذا كانوا صنفا واحدا – وبالتالي فهما عاديا واحدا – فلا لحن في القول، فإذا تعددت الأصناف وفهم صنف ما لم يفهم غيره فذلك لحن القول.
وهكذا يتضح أن لحن القول يستحيل أن يكون صفة ذاتية لأحد أو علامة لأحد أو عليه، ولكن محمد الشيخ التقط هذه التسمية من آية قرآنية من جملة آيات في المنافقين من سورة “محمد” قال تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم}، والسيما هي العلامة، ثم قال: {ولتعرفنهم في لحن القول}، فظن محمد الشيخ أن العلامة هي نفسها لحن القول وهو خطأ وخطل كبير.
زيادة في التوضيح أقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لبث زمنا طويلا لا يعرف المنافقين: قال تعالى: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم}، ولهذا السبب كان المنافقون يُفهِمون بعضهم بعضا بلحن القول في مجلس النبي دون أن يلحظ غيرهم شيئا، ثم تغيرت الحال بإحدى طريقتين أو بهما معا: الأولى أن الله جعل لنبيه علامة يعرفهم بها وهي السيما، ولكن هذه وردت معلقة بالمشيئة، ولا أدري إن كان الله شاء أو لم يشأ، أما الثانية فجاءت مؤكدة باللام، فلابد أنها وقعت.. وقد تتجاوز هذه المعرفة أعيانهم كمنافقين، إلى معرفة ماذا يُفهِم بعضهم بعضا في لحن القول، لأن ذلك من مقتضيات هذه المعرفة المؤكدة من الله.
العلامة الثانية من الثلاث المضحكات: الجهل بأحكام الفرائض الخمسة.
بسيطة يا محمد الشيخ، إن أربعا وعشرين ساعة تكفي وتزيد لتعلم هذه الأحكام، فهل إذا تعلمها من تعلمها يخرج من كونه (من جهلة المدرسة السياسية؟)
اطمئن.
ولكن كم من الوقت يحتاجه محمد الشيخ ليتعلم أن جمع الفرائض لا يوصف بالخمسة؟؟. أحقا تعرف ذلك شرعا، وتجهله لغة؟؟.
أما ثالثة أثا في محمد الشيخ فهي: سهولة انتهاك المحرمات!
وسهولة انتهاك المحرمات تعبير فاسد، لأن انتهاك المحرمات في نفسه سهل دائما.. أما إذا رآه من رآه صعبا فذلك راجع إلى المنتهِك لا إلى المنتَهَك، لأن سهولة المنتَهَك لا تفارقُه فهي وصفٌ ذاتي له، وبخلاف ذلك المنتهِك فإنه قد يكون ممن يخشى الله فيبدو له الانتهاك صعبا مخيفا.. وقد لا يكون فيبدو له سهلا، أو حتى نزهة.
إن الفكر الأعرج، يلد التعبير الأعرج، والمصدر المتعدي وهو “الاستسهال” هو ما كان يحتاجه محمد الشيخ: لا مصدر “السهولة” اللازم الذي حبسه في دائرة مغلقة دون أن يتجاوز إلى شيء.
وتنتهي ثلاث محمد الشيخ المضحكات، دون أن تكون علامة لشيء ولا على شيء، إلا على تهافت العقل الذي “مَنْطَقَها”، ومرضِ النفس التي “نطفت” بها، وأن الخيال الذي تصورها وصورها كسيح.
في كل الفقرات السابقة كان محمد الشيخ يوحي إلينا – والوحي إخبار – من وراء حجب القرون الأولى كأنما يكلمنا من داخل كهف مسحور.. وبلا مقدمات رجع بنا إلى انواكشوط وإلى لغته الخشبية فقال: من الواجب الفصل بين الشأن الدعوي والتعليمي الرباني وجهلة المدرسة السياسية.
لا تتوقعوا أن محمد الشيخ يطالب بفصل السياسة عن الدين، فالمطالب على قدر عقول أهلها، إنه فقط يطالب بالعودة إلى الإذاعة – باسم المحظرة – بعد فصل المدير الجديد عنها.
لماذا؟
لأن المحظرة مقدسة لا يمسها إلا المطهرون. والطهارة أو التطهير تحصل بتزكية محمد الشيخ، وفق أسس هي موضوع تندر طريف في شارع الإذاعة هذه الأيام.
يعتقد محمد الشيخ أنه نجح في اختطاف المحظرة الشنقيطية من أهلها، وفي تحويلها إلى “ماركة مسجلة” باسمه، عندما رخصت له وزارة الاتصال بنافذة بث تلفزيوني، من بين ثماني نوافذ كاسدة لديها لم تجد من يرغب فيها.
وعندما دشن الرئيس “المحظرة” تبين بوضوح أن محمد الشيخ يريد من المحظرة خلاف ما يريده الرئيس والموريتانيون منها، وأنه يعول عليها في مشروع من نوع آخر لا يخطر للرئيس ولا لأي موريتاني على بال.
قال محمد الشيخ، في خطاب رسمي في إحدى ندواته، إن “محظرته” مسؤولة عن محاصرة التشيع في إفريقيا، والقضاء على الإرهاب في الشرق الأوسط.
خطر لي وقتها أن أسأل محمد الشيخ من خوله أن يدشن “باسمنا”، وفي موريتانيا التي لم تعرف الطائفية في يوم من الأيام، حربا طائفية.
وتذكرت أن “غير” محمد الشيخ في الظاهر على السطح من الأمور، كان إبان الربيع العربي، يستقدم ذلك الربيع إلى موريتانيا، ويلح في طلبه واتعجاله.
تعلمون أنه منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، ثم سيطرة إيران عليه فيما بعد، اتحدت الطائفية بالإرهاب، وأصبح لكل إرهاب وجه طائفي.. فهل هي مصادفة أو فلتة لسان أن يجمع محمد الشيخ الطائفية والإرهاب في جملة واحدة ويعتبرهما معا موضوع رسالة “المحظرة”.
الذين سمعوا هذا الكلام في حينه لم يتوقفوا عنده، لأنهم اعتبروه نكتة، وبالفعل هو نكتة، ولكنها سمجة مضخمة بالدماء والأشلاء!
“المحظرة” الشنقيطية – حتى لو اغتصبت في قناة – ليس فيها ما يبعث في الأذهان فكرة محاصرة التشيع في إفريقيا والقضاء على لإرهاب في الشرق الأوسط، فضلا عن أن يدفع بها إلى الألسن في الخطابات الرسمية.
هذه الفكرة محمد “شيخية” أصيلة وليس لها أي صلة، بل من المؤكد أنها نقيض لما يريده الرئيس والموريتانيون جميعا من “المحظرة”.
إن محمد الشيخ لمن لا يعرفه يقسم عمره نصفين، نصف لصناعة أعدائه، ونصف لمصارعتهم. لذلك فكل مكونات العالَم كانت في وقت من الأوقات عدوا معلنا لمحمد الشيخ، وكلها مرشحة مستقبلا أن تكون.
ولهذا السبب فإن كل التاريخ العربي الإسلامي ممسوح من ذاكرته إلا الحقبة الأشد سوادا فيه، وهي الحقبة التي تقاتل فيها صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بسيوفهم، لأن السياسة خدعتهم عن نفسها، وتنكرت بلباس الدين!
هل فهمتم ما هي “المحظرة” بالنسبة لمحمد الشيخ؟ إنها بالضبط قميص عثمان!!
وكما أن القميص ليس ملكا لمعاوية، ولا إرثا شرعيا له، فكذلك “المحظرة” ليست ملكا لمحمد الشيخ، ولا إرثا شرعيا له!
ولكن السياسة قديما وحديثا مكنت معاوية من القميص، ومكنت محمد الشيخ من المحظرة.
وهنا ظهر الفرق الهائل بين الرجل والبهلوان: معاوية السياسي الداهية الحكيم، الذي سار بالقميص وسار به القميص إلى الملك المكين.. والسيد محمد الشيخ الذي ركب المحظرة فلم تسر به ولم يسر بها نصف خطوة.. إنما نفرت من تحته وأطارته في الهواء، وخلت بينه وبين الهاوية.
لا تستغربوا هذا النواح المتواصل من محمد الشيخ، لأن فرصة الملك الضائعة تستحق ما هو أكثر من البكاء.
وماذا قال محمد الشيخ أيضا:
(إن هذه ا لأيقونة المفخرة: المدرسة العلمية، هي الآن شوكة في حلق وخاصرة الاستعمار وأذنابه، وعملائه وأميلزته، وجواسيسه وغلمانه، وهذه الحاشية علمانية كانت أو دوغمائية، هي {كحمر مستنفرة فرت من قسورة} حين يشع نور المحظرة ويسطع في المؤذنة أو المحظرة أو في مجال الإعلام المرئي أو المسموع).
هذا هو محمد الشيخ على حقيقته، وقد عاد إلى نفسه، من رحلته التنكرية في رحاب التاريخ، المختلَق المزور، كما تعود “حليمة” دائما لعادتها القديمة الجديدة. بذاءةً، وقذعٌ، وولوغ في أعراض الناس.
نعمة السيد محمد الشيخ ارتبطت “تاريخيا” بهذا الخيار المقيت، والظاهر أنها ستنتهي إلى النقطة التي ابتدأت منها: {تبت يدا أبي لهب}.
هذا باب لا أريد أن ألجه الآن، بل لا أحب أن أدخله مطلقا.. ولكن القرار بشأن ذلك ليس إلي، بل هو قرار محمد الشيخ.
كيفما كان الأمر ينبغي لصديقنا أن يستوعب بعض الحقائق:
إن الولوغ في أعراض الناس الذي امتهنه ومَرَدَ عليه زمن “بشراه” لابد أن يتوقف، إن الناس في زمن البشرى كانوا يعلمون أن صاحبها، ليس – ولا يتوقع أن يكون – له من الأمر شيء، وأن الانتهاك الحاصل لأعراضهم إنما هو إرادة دولة، فلم يكن من الحكمة مطاردة “الرَّمْيَةِ” عوضا عن الرامي!.
الوضع مختلف الآن، فإذا ولغ محمد الشيخ الآن في عرض أحد، فإن ذلك بإرادته هو، ولحسابه هو، وعليه في هذه الحالة – إذا كان سويا – أن يتوقع شيئا مماثلا أو أكثر، لأن البادئ أظلم.
لماذا لا يُطِلَُ محمد الشيخ على الناس إلا من “شرفةٍ” دينية؟ لابد أن لذلك أسبابا هي في متناول الفهم، أشفق على صديقي من الخوض فيها الآن!.
ولكني أقول له بمنتهى الصراحة والوضوح وبكلام لا يحتمل التأويل: عليك أن تكف – ونهائيا – عن العبث بالقرآن. ببساطة لأنك لست من أهله، ولا حظ لك في فهمه، ولا قبس لك من نوره. فمن لم يُقبِل عليه القرآن، يستحيلُ عليه أن يلحق بالقرآن!
هل تريد أن أضرب لك مثلا من علاقتك الشديدة الرداءة بالقرآن؟
فليكن:
قلت في وصيتك التي لا يدري أحد لمن (ما قدمتُه في هذه الأربع لن يضيع لأن الله يعلم ويسمع ويرى)، هذا الترتيب لصفات الله لا يقع إلا عن جهل رديء مقيت بكتاب الله، لأن الله أخبر عن نفسه في كتابه ولا يعلم الله إلا الله، فوصف نفسه عددا لا يحصى من المرات بأنه سميع عليم، وأنه السميع العليم. ولم يرد في القرآن ولا مرة واحدة أن الله عليم سميع، كما فعلتَ مقدما العلم على السمع، حين قلتَ إن الله يعلم ويسمع ويرى.
لو كانت لك صلة بالقرآن، لا استأنست، وأنت تحاول قول ما قلت، بما قال الله لموسى وهارون وهما رسوله إلى فرعون: {إنني معكما أسمع وأرى} أسمع أولا… هل سمعت؟
هل تريد مثالا آخر؟
جاء في كلامك: (وقد جعل الموريتانيون القرآن ربيع قلوبهم… سواء منهم {من أسرَّ القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار}.
ما معنى هذا الكلام؟ هل تريد أن تقول إن الموريتانيين يقرؤون القرآن سرا وجهرا؟
القراءة لا تكون إلا سرا أو جهرا، والزمان ليس إلا الليل والنهار، فما فائدة هذا الكلام؟
الآية وردت هنا سبهللا، أو عبثًا.. وقد جردها محمد الشيخ من معناها الأصلي دون أن يتمكن من الاستفادة منها في معنى جديد.
ولكي تحتفظ هذه الآية بمعناها لابد أن تحتفظ بموضعها الذي حرفها عنه محمد الشيخ، ظلما وعدوانا، حيث إنها وسط بين آيتين ومرتبطةٌ بهما معا:
{…عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله}. والمعنى أن عالم الغيب والشهادة سيان بالنسبة إليه السر والجهر والليل والنهار لأن علمه محيط بذلك على السواء. وفضلا عن ذلك فإن الواحد منا في كل هذه الحالات {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله}، وهم الملائكة المتعاقبون الموكلون به!
وهذا المعنى متكرر في القرآن كثيرا.. ومنه آية الملك {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور}، وآية هود: {ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور}، وآية الأنعام {…يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون}، وآية الأنبياء {… يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون}، وآيات أخرى كثيرة!
هل تريد مثالا آخر؟
لنعد إلى آخر فقرة كانت بين أيدينا من كلامك: (وهذه الحاشية علمانية كانت أو دغمائية) هي (كحمر مستنفرة فرت من قسورة).
لسنا – في هذا المثال – أمام بلادة، أو سوء فهم، أو طمس بصيرة في القرآن.. بل نحن أمام استهتار مدعم بالجهل والجهالة والجاهلية الجهلاء.
مالك ولهذه الكاف المشؤومة التي تجرها، وتجر بها، وتنجر معها كالسلحفاة؟.
من أعطاك صلاحية إعمال كافك المشؤومة في القرآن، لتفسد بها بنية آيتين من كتاب الله..؟ عار وشنار أن يصدر مثل هذا عن من يُوقِعُ بأنه أستاذ، وكاتب صحفي، وليسانس في الفقه والأصول؟.
دعك من “أستاذ”، ومن “كاتب صحفي” فلا معنى لهما أصلا، فهل يُتصور من صاحب ليسانس في الفقه والأصول أن يتصرف بهذه الطريقة مع القرآن ومع العربية؟
الأصول هي العربية أولا وأخيرا، فأنى لك الأصول وأنت لا تعرف العربية؟!!
إن الرجل كان في سعة من أمره، ولم يكن يواجه ما يحمله على المغامرة بالقفز في الهاوية.
محمد الشيخ كان قد جمع بضعة أوصاف لا وجود لها في الواقع، ثم سماها حاشية، وأراد أن يستفيد من التشبيه القرآني، للملأ من قريش: {كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة}، فصعب عليه إرجاع الضمير من “كأنهم” على الحاشية، رغم أن ذلك سائغ في العربية، وبه تقع الاستفادة من الآية باقيةً على حالها، فلم يوفق لذلك، واضطر إلى الإتيان بضمير “هي” فصار الكلام: (وهذه الحاشية علمانية كانت أم دوغمائية) هي! وكان بإمكانه أن يُتبِع هذه الـ(هي) مباشرة بـ(حمرٌ مستنفرةٌ.. إلخ) وبذلك يكون أسقط جزءا من الآية دون أن يغير البنية القرآنية لما بقي منها، لكنه أيضا حرم هذا القسط اليسير من التوفيق، بسبب أنه كان يحمل في حقيبة عِيِّه كافا مشؤومة تفتش عما تعمل فيه، أو تنضم إليه، أو تلتحق، أو تلتحم به، فجاء الكلام بتلك الصيغة الشوهاء المجرمة الغبية البليدة: هي (كحمر مستنفرة فرت من قسورة).
هكذا قال محمد الشيخ في الشأن العلمي..
فماذا قال في الشأن السياسي..
سنرى ذلك فيما بعد